ماذا؟ شعوب هائجة في روسيا البعيدة، وانقلاب منتظر في أسبانيا القريبة! من سهول سيبيريا الثلجية إلى غياض الأندلس، من مجرى نهر الفولكا إلى مَصَبِّ «الوادي الكبير» تنطلق شعلة الثورة نافضة شرارتها الضخمة، تلك الشرارات التي تلتهم عروشًا وتترك عامر البلدان خرابًا!
ماذا تعني الثورة؟ قيود تحطم على الأشلاء، وإذا ما لامسَتْ حلقاتها الجماجم والدماء كان لذلك عويل وأنين، وبعد سكر التغلب وجنون الفوضى، قيود جديدة يحملها الشعب راضيًا، مُسلِّمًا أَزِمَّتَها إلى أيدٍ يَظُنُّ أنه مُنتَخِبُها، لتلك القيود الجديدة طلاء خلَّاب يبسم لها الشعب ويهلل للمعانها تهليلًا، ظانًّا أنه قد أصبح ملك الخليقة.
حرية، مساواة، إخاء!
كلمات عظيمة تهزُّ النفس الإنسانية حتى أعماقها، ولكن هل تتم في أرضنا معانيها؟ هل تعطينا الطبيعة (ويعتبرها البعض صورة لغاية الكون) مثلًا للحرية، والمساواة، والإخاء؟ أليس كل شيء في الطبيعة مقيدًا، حتى العناصر التي ننعتها بالعشواء، الماء والهواء؟
هل تتشابه السنديانة الفخمة ذات الأغصان الباسقة، بالعشب المنسي المرتجف في ظِلِّها، هل يستوي الجبل الأَشَمُّ والوادي الأجوف؟ أليس هذا التنوُّع في الطبيعة وفي الحياة الذي يجعل للطبيعة وللحياة رونقهما العجيب؟
والإخاء، أين تبحث عنه؟
لئن وُجِدَ لهذا الإخاء صورة حقيقية بين الأشياء من حيث إنها مربوطة بنظام واحد دائم مهما تعددت الموضوعات وتنوعت الدوائر، فإنَّ هناك تنافرًا شديدًا، تنافرًا أكيدًا في أساس كل شيء، وذاك التنافر شرط جوهري للتناسب النهائي، بل هو نصفه وهو منه، ولئن كان الحب أصل كل شيء فلقد صدق ذلك الفرنساوي القائل إن نصف الحب بغض، دعهم يتطاحنون!
جسم الإنسان يرويه الماء، ووحشية الإنسان لا ترويها إلا الدماء، ولكن الجزء الإلهي فيه يطلب الحرية التي ما عرف منها إلا الاسم، فيستعمل كل ما لديه من قُوى الشر والخير للبلوغ إليها، وينطلق للبحث عنها هادمًا بلادًا ومشيِّدًا أخرى، ظالمًا منصفًا، قاتلًا مُحيِيًا، فيفعل ما يفعل واثقًا بأنه يفني حاجزًا هائلًا قام بينه وبين رياض الحرية الغالية وما كان إلا لنفسه مُفنيًا!
دعهم يتطاحنون! وانظر إلى أطراف الشارع! هناك تعدو سيارة لمع فيها كل شيء، ولمع كل شيء فوقها وتحتها وحولها، يجلس فيها رجل يبرق حذاؤه برق أسرته إذ ينظر إلى ذلك الحذاء، هو سعيد ذاق طعم السعادة العادية التي لا تطلب غيرَها نفسُه، يطلب استزادة ولكن من تلك السعادة بنوعها ولا يستطيع أن يفهم غيرها، وكل الذين لا يعتقدون اعتقاده لا يفهمون في نظره عند الزاوية، في ظلِّ غصن قُصِفَ جزؤه الأعلى، جلس فقير يستعطي، يستعطي ليأكل، يستعطي كيلا يموت، يده الممدودة ترتجف وفي ارتجافها توسُّل متواصل، ووجهه … من يستطيع أن يصف وجه المستعطي؟ من يستطيع أن يُعبِّر عما فيه من المرارة والحقد، من الذل والتمرد، من الوجع ومن البغض؟ نحن لا ننظر إلى تلك الوجوه لئلا ينزعج فينا حبُّنا للفن وحبُّنا للجمال، ولأننا نخاف من عاطفة الإشفاق مجردة من الزخرفة واللآلئ!
تمر السيارة اللامعة فيندلع من عين المستعطي لهيب فيه احمرار وفيه اخضرار، ماذا يعني ذلك اللهيب؟ وبعد هنيهة يمر موكب مؤلَّف من أشخاص أربعة بليت أثوابهم وأثقلت الهموم جبهتهم: الأول منهم يحمل نعشًا صغيرًا أسدل عليه وشاحًا باليًا وشاح الفقراء! والثاني يرتل بصوت خافت: لا إله إلا الله! والثالث رجل ألبس وجهه هيئة الشراسة خشية من أن يبدو عليه أثر للحزن، عيناه تتبعان النعش الصغير وتنظران، وفيهما تهديد يخالطه خيال الرحمة إلى المرأة الماشية وراءه، وتلك المرأة الوجيعة، الأم! تسير عارية القدمين وراء نعش صغيرها، تسير نائحة باكية لترى كيف يضعونه في التراب، وكيف ينام هناك نومته الأخيرة!
لدى هذا المشهد يسحب المستعطي يده متناولًا بها كُمَّه البالي، وتلك العين — غير النظيفة — التي جعلها لهيب البغض هائلة، تجعلها الآن عذبةً دمعةُ الإشفاق المتدحرجة على ذلك الوجه … وذلك الوجه أخذ حينًا جمالًا مهيبًا، جمال الشقاء الذي يرحم.
وفوق رأس المستعطي، على الفرع المكسور المُنوَّرة على أطرافه زُهَيْرَةٌ زرقاء، زهرة الحب، في فَيْءِ الوريقة الخضراء — ورقةُ الرجاء … وقف طائر الربيع يغرِّد.