كجميع الكتب الصادرة من مطبعة نجيب أفندي متري، هذا الكتاب من حيث فن الطباعة آية حسن ذوق وإتقان، وإذا ما قلبت صفحته الأولى استوقفتك رسالة من أستاذنا الكبير إسماعيل صبري باشا الذي يفتخر الأدباء جميعًا بكونه «رئيسهم»، رسالة هي خلاصة رأي سعادته في هذا السِّفْرِ الطيب وفي مُؤَلِّفته ومعرِّبه الفاضِلَيْن.
ثم يتقدم فكرك «خطوة» بين صفحاته، ويتناول اهتمامك فصوله واحدًا بعد واحد مع ما يسبكها من أسلوب رشيق وعبارة أنيقة وتشكيل موضح وفن في الطباعة مُتقن، حتى إذا ما أتيت إلى آخره قلت: «لقد استشعر (الرئيس) بفكر كل قارئ للكتاب يوم خطَّ رسالته فيه» وإذا كنت مُحِبًّا لترقية المرأة وترقية النوع الإنساني بالتبع، سارعت بإهدائه إلى كل فتاة لديك عزيزة، إلى ابنتك وأختك وقريبتك.
إني لا أعرف حضرة مُؤلِّفته شخصيًّا لأشكرها، على أني أعرفها معنويًّا، وكأنني سمعت من خلال سطورها نغمة نفسها العذبة في إرشادات ونصائح لا تأتي إلا من أُمٍّ ذكية مدبرة لطيفة، ذات نظرة نفَّاذة وكلمة فعَّالة.
أما حضرة مُعرِّبه أنطون أفندي جميل، فهو مفكِّر دقيق الملاحظة، ولا يذهلنا اهتمامه اليوم بأمر تربية الفتاة، وقد كان لهذا الموضوع الخطير صفحات واسعات في مجلته «الزهور»، هو يرى النقص الهائل في تربية فتاة اليوم فيؤلمه أمرها ويحاول مساعدتها ما استطاع، ولعلَّ ما من أحد يرى زلات الفتيات ويود إصلاحها أكثر من الشبان إذا كانوا على جانب من العلم والتفكير، نعم يا صديقتي، الشابُّ الذي لا يعرفكِ ولا أمل له في الاجتماع بكِ يومًا إذا كنت محجوبة يحاول استجماع كل ما يُقال عنكِ وكل ما يَنُمُّ عن طويتكِ ليبني عليكِ حكمه، والشاب الذي تقابلينه في الاجتماعات — إذا كنتِ من السافرات — ذاك الذي ينحني أمامكِ باحترامه الاتفاقي وأدبه الاجتماعي، ذاك الذي يسكب أمامكِ أعذب ابتسامة تعلمها في الصالونات ساردًا أرقى ما لديه من العبارات المُحنَّطات، هذا لكِ أعظم ناقد، أنت تنسين ذلك لكثرة الوجوه المارة أمامك، ولكن هو لا ينسى أن يلاحظ حركات كل فتاة يراها، ويدرس كل خصائصها ليطلق عليها حكمه النهائي، لعل الضجر الآفةُ الكبرى في حياة الفتاة، هي مكفولة باهتمام والديها بها، فلا واجبات تستغرق فكرها ووقتها ولا مسؤولية تجعلها شاعرة بقوة شخصيتها وأهميتها، أما تبادل الزيارات والاجتماعات الكثيرة أو القليلة، فإذا كانت كافية لإرضاء بعض الفتيات — وفي هذا إشارة غير حسنة لأنه يَنُمُّ عن فكر سطحي ونفس قانعة من الحياة بقشورها اللامعة — فإن البعض الآخر يكاد يختنق مللًا، وأثر الملاهي الاجتماعية لا يأخذ في نفسه إلا المكان الذي يستحقه. قالوا إن السآمة علامة النفس الشريفة، هذا صحيح بشرط أن تكون السآمة حادثًا مارًّا أو حالة نفسية مؤقتة، إذ تنمُّ عن رغبة في تلك النفس إلى حياة أرقى وأهم وأجمل وهذا ميل إلى الكمال دائمًا، أما السآمة المستديمة فهي قتَّالة للقوة والنشاط النفسيين ومرضعةُ الكسل ووهن العزيمة، ومُؤدِّية حتمًا إلى التلاشي الشخصي.
لا تقيم السآمة عند الطبائع القويةِ بذكائها، الغنيَّةِ بوفرة ما لديها من تعدد الميول والرغبات، وأما الفتاة فملول أحيانًا، إلا أن أوقاتها غير منتظمة وللفراغ الفكري والعلمي فيها مُتَّسَعٌ شديد. في «كتاب الفتاة والبيت» جدول حَسَنٌ لتنظيم أوقات الفتاة وإرشادات طيبة لها بالاهتمام بأبسط أمور البيت وأحقرها دون إهمال درجات الفكر والتوصُّل إذا شاءت إلى أرقاها، فإن الأمر الواحد لا ينفي الآخر كما يظن الكثيرون، بل بالعكس، وما من امرأة «تحب بيتها ومملكتها الصغيرة» كالمرأة الراقية.
ولكن ليعلم جميل أفندي أننا لا نكتفي منه بهذا الكتاب في موضوع المرأة، لقد ذهبت أيام (نيتشي) وما زال مواطنوه يحاولون أن يجعلوا مذهبه في (السوبرمان) حيًّا، لكن نحن لا نريد (السوبرومن) بل غاية ما نتمنى للفتاة في الشرق علمًا ومعرفة يضعانها في أفق الحياة الحرة، الحياة الشريفة الحرة، ولا شرف مع الاستعباد، نريد هدم جدران الكذب التي أقامتها عصور الجهل بين الرجل والمرأة والظنون السيئة التي ما زالت تُصوَّب نحو ابنة حواء المسكينة.
كتاب كبير يحوم على كل أثر من آثار حياة المرأة، يطبعه نجيب أفندي متري ونجد في أول صفحاته لا رسالة من «الرئيس» «نثرية، بل قصيدة، قصيدة في تحرير المرأة».