الفتاة الإنجليزية الساكنة في الغرفة ذات النافذة المقابلة لنافذتي تعرفني وأعرفها معرفة غير قليلة، تعرف لون الزجاج من مصباحي ولا أجهل في أي ساعة من السهرة تُشعِل شمعتها، أراجع في حافظتي أنواع القُبَّعات التي تلبسها ولا أنسى واحدًا من الأثواب المالئة خزانتها، وهي تعرف مني لون جلائلي والساعات التي أسقي فيها زهراتي والأوقات التي تعيدني إلى مكتبي مكرمة عليَّ بكآبة وحدتي العذبة.
على أن مجموع أفكارها يظل عندي لغزًا، لا أدري ما هي العاطفة الكبرى المتسلطة على حياتها، ولا الفكرة القادرة التي تشرف على ميولها وحركاتها، إذ لا بد في كل حياة من عاطفة سائدة على سائر العواطف الأخرى وفكرة مدبرة لمعظم الرغبات، أجهل ذلك، وهذا الجهل يغيظني وليس إلى إزالته من سبيل.
لما نلتقي في الشارع بعيدًا عن مسكنينا نسارع إلى تبادل النظرات ثم نبادر إلى التظاهر بأنَّ كل واحدة منا لا اكتراث لها بالأخرى، أيها الكذب الاتفاقي، كم أنت أبله! نتظاهر بذلك مع أننا نكاد نحترق لتسمع كلٌّ منا صوت جارتها وتقف على شيء من معاني حياتها، وهذه الرغبة الشديدة تنجلي مهما بالغنا في تَكتُّمها، ويحدث أحيانًا أن كُلًّا منا تقرأها في نفس الأخرى فنبسم على غير إرادة منا وبين شفاهنا ضحكات طويلات تودُّ لقاء ظرف مناسب لتتدحرج حرَّة من تلك الضحكات التي لا يعرفها إلا الفتيات المحبات للضحك، ولكن تربيتنا الاجتماعية تُكرِهُنا على حفظ تلك الضحكات إلى … يعلم الله متى، ربما دائمًا.
إنها شقراء نحيفة ولها ولع باللون الأبيض تلبسه في الصيف والأزرق البحري (الكحلي) تلبسه في هذه الأيام، وتزين شعرها الذهبي بشريط من اللون الأزرق الذابل، تهتم في لبسها كثيرًا وعلى وجه خاصٍّ ساعةَ تتهيأ للذهاب إلى لعب الكرة (التنيس) وتقضي ساعات فراغها في الخياطة والتطريز ويندُر أن أرى في يدها كتابًا.
في الغرفة المُحاذية لغرفتها يسكن ضابط إنجليزي وزوجته، ويتناول الثلاثة طعامهم على شرفة واسعة تطل على الحديقة الصغيرة حيث ترتجف الأعشاب وتتململ الغصون، وإلى الآن لا أعرف هل الضابط أخو الفتاة أم زوج أختها أو غير ذلك من ذوي القربى، ولكن طالما رأيتها بقربهما وهما لاهيان عن جمودها بالحديث المتتالي، تنظر إلى شيء غير منظور، إلى أي شيء تنظر الفتاة الشقراء الغريبة وبماذا تفكر يا ترى؟! إن نظراتها — وإن كنت بعيدة عن تعبيرها الحقيقي بالنظر إلى المسافة — تخيلُ كئيبةً، هل في نفسها داء دفين تثير آلامُه زقزقة الأطيار وأناشيد الألوان في الأفق أم هي ترى هناك بين اشتباك الغصون صورة وجه عزيز غائب؟
وقفت هذا الصباح أمام نافذتي ونظرت إليها نظرة طويلة صريحة، وهي تذهب وتجيء في حجرتها وتسارق مرآتها النظر حينًا وتنظر إليَّ خفية في الحين الآخر، ثم خرجت إلى الشرفة تنشر صحفًا كثيرة على درابزين الحديد وتضغط عليها شديدًا كمن يأمرها بالبقاء في مكانها، وعادت إلى حجرتها، إنها تريد نشر شيء من الأشياء التافهة الجميلة التي تحبها النساء، ثوبًا حريريًّا أو وشاحًا لامعًا، أو غير ذلك، فانتظرت أتلذذ سلفًا بحركاتها العتيدة وبما ستكشفه لي من طبيعتها الحارة أو المعتدلة، وهذا ما ستنبئني عنه حركاتها وكيفية نشر ثوبها.
ولكن! هناك «لكن» معاكس لجميع ظروف الحياة حتى التافه منها! ولكن جاء النسيم مداعبًا ونفخ على الجرائد المنشورة فطارت، طارت قليلًا في الهواء متهكمة ثم سقطت على الأرض، ولم يبق على الدرابزين إلا واحدة منها.
أخذني الضحك الشديد أنا التي شهدت اهتمام الفتاة في أمرها وتصورت هيئة وجهها وما سيرتسم عليه من علامات التعجب والانذهال — وهل من هيئة تُضحِك أكثر من هيئة الانذهال؟ — عندما ترى أن مفروشاتها قد طارت بلا استئذان.
جاءت جارتي وجمدت إزاء ما وجدته من الخلو، جمدت جمودها أمام المائدة وهي بين الضابط وزوجه، ونظرت نظراتها العادية الموجعة إلى ما بين غصون الشجرة الوحيدة، فتحول ضحكي إلى كآبة وانقلب انشراحي تفكيرًا، وما لبثت الفتاة حتى عادت إلى الصحيفة الوحيدة الباقية وأصلحتها ببطء ونشرت عليها حاجتها وعادت بعد أن مكنت الحاجة والصحيفة بدبوس محكم الوضع.
أحلام وآمال ترينا كل شيء جميلًا، أليس كذلك أيتها الفتاة؟ نثق بالحياة لأننا نعتقد فيها صدقًا كصدقنا، وإخلاصًا كإخلاصنا فتأتي ريح سموم مبددة تلك التصورات وذاك الرجاء بلا إشفاق، ولما نقف أمام أحلامنا متفقدين ثباتها وأمانتها نرى خلوًّا موجعًا لا يملؤه في نظرنا شيء، وبعد الكآبة والأسف نعود فنكتفي بالقليل الباقي ونجمع كل ما لدينا عليه.
… أما الدبوس فماذا يعني؟ أليس هو نتيجة الاختبار؟ تظنين أنه سيحفظ الثوب والصحيفة ولكن إذا جاءت ريح شديدة فمزَّقت الحاجتين ولم تترك إلا الدبوس يَعَضُّ على قطعة منها صغيرة فما يكون رأيك في الدبوس، أي فيما يسمُّونه الاختيار؟