المناسبة: كلمة الآنسة مي في تعزية السيدة لبيبة هاشم.
إلى السيدة لبيبة هاشم:
رأيت اليوم صورة جمعت بين دقة الفن وعمق الفكرة، في ذيلها اسم من الأسماء التي لم تنقش في ما يسميه محبو الشهرة «سجل الخلود»، لكن صاحبه من الذي درسوا في عزلتهم ألغاز النفس الإنسانية وحركاتها فحاولوا التعبير عنها ببعض مظاهر الطبيعة.
تمثل جبلًا قامت عليه شجرة صنوبر، واحدة تحت جو عبس في الأفق برمادي غيمه وأسوده. وكأن زوبعة أثارتها آلهة الهواء قد دفعت الأرياح متواثبة هوجاء حول تلك الشجرة، فقصفت غصونها الكبرى وقد تركتها جامدة منفردة في ذلك المكان الذي لا مؤنس فيه ولا حبيب. يتردد الناظر إلى هذه الصورة بين عاطفتين لا يلبث حتى يطمئن إلى ثانيتهما: إشفاق على تلك الشجرة وقد هانت آلامها على خاطر الزمان، وإعجاب بذلك الجمود المتغلب بإرادة كأنها بشرية على غضب الأشياء، المقاوم هيجان العناصر بعظمته الصامتة. الباسم على رغم منه لفروع صغيرة ذات خضرة عذبة، بارزة في جوانب الشجرة كمن يقول: «ها أنا ذا وأنا الرجاء!»
مثل هذه الصورة، في غير هذه الظروف، يذكرني بلبنان الذي تكلل جبهته الشامخة غابات الصنوبر ويلثم البحر أبدًا قدمه بدلال موجاته — لبنان الذي رأت أطرافه عز صور وصيدا ومجد بعلبك وتدمر، وما زال موضوع آمال كبيرة لمدينة عتيدة. على أني اليوم لا أذكر إزاء شجرة الصنوبر إلا امرأة قوية لها في نفسي أسمى مقام.
كم فكرت بكِ في هذه الأيام، يا سيدتي! بعين الخيال رأيتكِ ساعة الحزن المفاجئ. الحزن ثقيل الوطأة إلى حد تظن النفس أنها متلاشية تحته. رأيتكِ؛ ساعات الجمود الطويل الذي يعقب الصدمة الأولى وفيه تتسرب معاني اللوعة إلى القلب قليلًا قليلًا. ورثيتكِ ساعة الوداع الأبدي، ورأيتكِ شقية تحت عجاجة الأسى والنعش أمامك بعيدًا ثم بعيدًا ثم بعيدًا نحو المستقر الذي لا مسافة وراءه. وقد انقلبت هنيهة المرأة التي ما ذكرت إلا أنها امرأة، قلبها العتي يرتجف في عبرات متسابقات نحو حافة الجفن. متمنيًا أن يسيل دفعة واحدة مع العبرات ومثلها ليستريح.
لا تبكي، يا سيدتي، إن ساعات البكاء قد انقضت. ولئن شعرتِ بأنكِ وحيدة فلا تنسي أن في جوانب الشجرة المنفردة فروعًا صغيرة ذات خضرة عذبة تقول: «ها أنا ذا! وأنا الرجاء!» ولئن أوجعكِ بكاء ولديكِ فأنت الأم الراقية تكونين لهما خير أب. لأننا نعرف أن في فكرك حزم الرجل كما أن في قلبكِ حنان المرأة. ولئن كان في قلبكِ جرح، فاذكري أن القلوب الجريحة ترفع الجباه عاليًا. وما النفس العزيزة إلا نفس تغلبت على ألمها وارتفعت فوق حاجتها. ثم إن جراح القلوب السامية تنفث بلسمًا زكيًّا وتكوِّن في النفس شجاعة وقوة جديدتين.
واجبان كبيران يرافقان حياتكِ، تربية ولديكِ، والعمل على إنهاض المرأة الشرقية من هوة الجهل والاستعباد والذل المعنوي اللاحق بها. واجبان شريفان أحدهما قلبي والآخر فكري، وإذا اشترك القلب والعقل في إشغال حياة كانت تلك الحياة مقدسة لدى عارفيها والنائلين منها خيرًا. ها إن نفسي تسير إليكِ الآن باحترامها وإعجابها، وتدنو منكِ وأنتِ منشغلة عنها تنظر إليكِ وتراكِ. لا، إنكِ لا تبكين، بل في عينيكِ الجميلتين زرقة البحيرات البعيدات وهدؤها، تمر فيها الوقت بعد الوقت بروق الذكاء وبروق الرجاء.