قالت الجريدة الغرَّاء في عدد أول أمسِ: كتبت الآنسة (مي) في جريدة الإيجبت مقالة عن إحسان بهية هانم برهان تحت عنوان «نفحة جميلة» آثرنا تعريبها لِمَا فيها من الأفكار العذبة ومن اعتداد السيدات بكرم إحداهن وتحديهن بذلك دليلًا جديدًا على الرُّقي النسائي في مصر، قالت:
«نعم، إن ما أسدته السيدة بهية هانم برهان إلى أولئك الصغار المحرومين من تراث الحياة لهو نفحة جميلة، وإن الجمعية الخيرية الإسلامية لَيَحِقُّ لها أن تنظر بعين الفاخر الشاكر إلى اليد السخية اللطيفة التي امتدت إليها من الجنس اللطيف فأسبغت عليها كرمًا حاتِمِيًّا لتعضدها في مهمتها الشريفة الصعبة، وليس في وسع إنسان أن يُلقِي نظرة على جيش الأطفال البائسين يسحبون أرجلهم على أديم الشوارع في عاصمة مصر، وشعورهم متعقدة متداخلة، ودلائل المرض بادية على وجوههم الكئيبة، وملابسهم أطمار بالية، وأيديهم الضئيلة ممتدة، تقرأ آيَ المذلة والألم، في حين أن الألسنة تلفظ متلجلجة كلماتٍ أَلِفُوهَا وتعودوا ترديدها بلا تفكير، والشفاه تتكلف ابتسامة هي أشد إيلامًا للنفس من تصعيد الزفرات، ليس في وسع إنسان أن يشهد ذلك المشهد الأليم ولا يفزع من مستقبل أولئك الأطفال الذين قذفت بهم يد الدهر بين مخالب الذل، فيالله ما ذاك الفراغ بل ما ذاك العدم!
مسكينة هي تلك الإنسانية الضئيلة، فإنها مُعدَّة للمصائب من قبل أن تولد، إنها وُجِدت لتقاسي القَرَّ والحر والجوع والعطش وتبقى وحيدة شريدة مصدوعة الجنان مكلمة الجسمان في هذا العالم الجميل الواسع … إن لها كل تلك الآلام ولغيرها المظاهر الشريفة اللذيذة والمبادئ والعقائد والحُنُوُّ والإخلاص مما يُعدُّ أثمن كنز للحياة العَيْلِيَّة، لغيرها المَنَازع العالية التي تتحرك لها النفوس المستقلة، ولغيرها الذكرى المستعذبة، والأمل المنعش بمستقبل أفضل من الحاضر، أما هي — تلك الإنسانية الصغيرة — فهي الكبيرة في ذلها وتجنب الناس لها وحالتها السلبية تحت الشمس، لا تأتي أمرًا إلا وجده الناس حقيرًا ومثيرًا للريبة، لا تعرف لذة الاحترام المتبادل والثقة المطمئنة للقلوب، ولا تذوق يومًا لذة الفخر بالعلم أو لذة الفخر بالوجود، بل تجدها هناك باسطة يدها منذ عهد الطفولة إلى عهد الشيخوخة، تستجدي وتتألم لتعيش، وإذا انقبضت يومًا تلك اليد الممتدة عن طلب الإحسان فإنما الموت هو الذي قبضها وأيبسها.
لذاك نرى أنه ما من عمل إنساني أفضل من أعمال الجمعيات الخيرية، ولا شيء أنفع وأجدر بالمدح من كرم المحسنين، ونحن النساء اللواتي نرغب في اتساع الحركة النسائية اتساعًا لا نهاية له، نشعر بارتياح خاص إلى مكرمة السيدة بهية هانم، إذ لا ضامن لنجاحنا مثل الأمر الذي أخذنا نشهده؛ أي تصدِّي الطبقة الشريفة من السيدات للحركة العامة والاهتمام بشؤونها والمساعدة على تحسين حالة الشبيبة المصرية بما تبذل لها من المال وتظهر من العطف، فإنَّ وَهَبات دولة الأميرة فاطمة هانم للجامعة، تلك الهبات التي أنعشت فينا الآمال وأوجبت الشكران — لم يمضِ عليها زمن طويل، وها نحن نرى اليوم مكرمة السيدة بهية هانم وهي أيضًا هبة ملكية تحرك فينا عواطف جديدة من الإعجاب الجميل.
وإنه ليعزِّينا في هذا العصر المادي الذي نرى فيه الأب يَسُمُّ أولاده، والإخوة يتلاحمون ويتقاتلون من أجل دُرَيْهِمَاتٍ، يُعزِّينا أن نرى السيدات الشريفات الذكيات يعطين الحسنات بملء أيديهن ويقدمن من حُلِيِّهن وقصورهن الجميلة في سبيل الخير.
نعم نعم أيتها السيدة، إن نفحتكِ لجميلة، إنها لنفحة عظيمة تشبه عمل من يزرع في السهول ليجني ريعًا وفيرًا، فإنكِ خلَّفتِ إرثًا لأولئك المحرومين من تراث الحياة، فلن يشعر الأيتام أنهم بعدُ منفردون بعد أن صاروا في جواركِ، فألف بركة من الله تحل عليكِ».