وجدتُنِي هذين اليومين في ظرف ذكَّرني بالشاعر الفرنساوي سومي برودوم، ووجدته مُصيبًا في مقته المحليات كما تكتبها الصُّحف، إن صفحة المحليات عبارة عن آلة صَمَّاء تُقرِّر ما يَرِدُ إليها تقريرًا ميكانيكيًّا جافًّا، وتنقُل إلى القُرَّاء أخبار الخير والسوء والشجاعة والجُبن، والموت والحياة، بلهجة فاترة واحدة واصطلاحات محدودة لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل!
قرأت أن مركبة سائرة من شارع بولاق نحو ميدان الأوبرا، جمح بها فرساها فانطلقت تقطع خطوط الترام وتعدو في الميدان بسرعة في منتهى الخطر، فأُغمِيَ على السيدتين الراكبتين فيها ولم يقوَ الحُوذي على إيقافها على رغم ما بذله من المعالجة والقوة، فرأى شاويش هذا المشهد ومضى بسرعة البرق يقبض على عِنَان الفرسين فلم يفلح في إيقافهما وظلَّا مُنطلقَيْن على وجههما يَجُرَّان المركبة ومن فيها بالسرعة نفسها والشاويش يكافحهما مسافة عشرين مترًا حتى وُفِّقَ أخيرًا إلى كبح جماحهما وإيقاف المركبة، وانتهى الأمر بسلامة.
أورد بعض الجرائد هذا الخبر بين محلياته فلم يعلق عليه شيئًا، كما يورد خبر هَجْمِ اللصوص على البيوت، والفرق بينهما أن أمثال هذا الخبر الثاني يذكر اسم السارق واسم المسروق واسم الشارع ونمرة البيت، أما الجندي الذي خاطر بحياته مسافة عشرين مترًا ليخلِّص غيره فقد فعل ذلك لوجه الله الكريم، وهو لا يستحق — على ما يظهر — أن يُذكَر اسمه حتى ولا نمرته ولا أن يُحبَّذَ عمله بكلمة استحسان تأتيه من الجمهور الذي خدمه!
سيقولون إن الشاويش لم يعمل إلا واجبه، ما شاء الله! وهل من أمر يوجب الإعجاب ويستحق الاستحسان أكثر من الواجب الذي يؤديه ذَوُوه رغمًا عن الخطر المحدق بهم؟ ولو صرفنا النظر عما كان هناك من الخطر فهل صوت الواجب وتلبيته يمنعان ذلك الشاويش أن يكون في موقف المحسن الكريم؟ كلا ثم كلا! إنه مُحسن وجزاء المحسن الشكر، فمن شكره؟ شكره الحوذي والسيدتان، لي أمل وطيد بأن يكونوا قد فعلوا، ولكن من يعلم؟ شكروه أصالةً عن أنفسهم، ولكن ماذا ناله من الجمهور الذي أحسن إليه بحياة ثلاثة من أعضائه، وتعرَّض لأجله إلى الصورة الجسدية المؤلمة وربما إلى الموت؟!
يوم يبطئ البوليس عن أداء واجبه فإنه يجد من يؤنِّبه ويعاقبه، ويوم يكون شجاعًا ويأتي بحركة كبيرة جميلة يحق للأمة من أجلها أن تشير إليه بفخر قائلة: هذا بعض أبنائي وعندي مثله كثيرون، فإنها تُعرِض عنه غير مكترثة بعمله.
أيها الواجب، جنودك أفراد مجهولون هم أبطال لحظات قصيرات، تتجمع لمحة في صدورهم شجاعة أمة بأسرها وتعمل بأيديهم قوة شعب بكُلِّيَّته!
وأنت أيها الشاويش المجهول، لا تنتظر ثناءً ولا مكافأةً؛ لأننا ما زلنا في طور الارتقاء الابتدائي، نكثر من الثناء والمكافأة للأغنياء والكبراء فقط مهما كانت أعمالهم عادية، يوم نعرف ما يأتيه صغار الأمة من كبار الأعمال نكافئ أمثالك العتيدين، إن شاء الله!
أما أنت فلك أن نكتفي بما أتيتَه من الشجاعة، وفخرك الأعظم أنك كنت في لحظة بطلًا مصريًّا وعدت الآن مجهولًا!