سِرْ في المدينة طولًا وعرضًا، من أقاصي العباسية إلى ضواحي القلعة تجد المتسولين وراءك وأمامك وحولك في كل نقطة وفي كل حين، إذا دخلت حانوتًا ما فارقوك إلا عند بابه ليستقبلوك ساعة خروجك منه، أو جلست في قهوة تألَّبوا عليك من كل صوب وناحية، فإما إحسان إلى كُلٍّ منهم، وإما فرار ينتهي بك إلى قهوة أخرى حيث تلقى مثل ما حملك على الفرار، وإذا دنوت من كنيسة أو جامع أو أي محل من المحال العمومية سواء كان مرسحًا أو سينماتوغرافيا؛ وجدت منهم جيشًا يتزايد عدده حتى صاروا كالذباب يتهافتون على المرء فلا يدري كيف يبعدهم عنه ليتخلص منهم.
الجمعيات الخيرية عندنا كثيرة وكفانا برهانًا على تعدُّدها صنوف أوراق اليانصيب في أيادي بائعيها، ونحن نعلم أن هذه الجمعيات تعمل الخير ما استطاعت وما سمحت لها محتويات صناديقها، وعلى رغم ذلك يظل نزلاء الشوارع على ما نراه من البؤس، والأغرب أن أكثريتهم تنتمي إلى العنصرَين ذَوَي الثروة الواسعة، أعني الوطنيين واليونان، تكاد تكون الجالية اليونانية أغنى الجاليات في هذه المدينة ومع ذلك فمعظم المتسولين الأجانب إن لم يكونوا إيطاليين فهم يونان، لكن الشقاء مخيم خصوصًا على الطبقة المتسولة من الوطنيين، إن منظر الشيخ منهم والنساء والأطفال ليفطر القلب، ومنهم الضعيف والعاجز وذو العاهة، وليس من يهتم بهم أو يلقي نظرة إشفاق عليهم، وإني لأعجب من إعراض الجمعية الخيرية الإسلامية عنهم وهي التي توفرت لديها أساليب المساعدة لأنها بما عندها من مال وعقار سنوي أغنى جمعية خيرية نعرفها في شرقنا الأدنى.
يقولون إن هذه الجمعية لا تهتم إلا بتعليم أبناء البائسين على حسابها وهذه هي طريقتها الكبرى في الإحسان، ولكن ما تعليم البائسين مجانًا — على وفرة نفعه — إلا فرع من فروع الإحسان، وهناك مساعدات أخرى تكاد تفوقه أهمية، أعني إيواء نسوة عاريات يَمْدُدْنَ يدهن ليأكلن، والنظر في أمر فتيات صغيرات لا يعلم من أين أتين وإلى أين مصيرهن، وإقامة ملاجئ للعجزة لو خَصَّصَتْ لهذا الغرض ما نزلها من المال بمناسبة وفاة المغفور له السلطان حسين، وعنيت باستثماره دون غيره بإحدى الطرق التجارية؛ لساوى هذا الجزء من ثروتها رأس مال بعض الجمعيات الأخرى وقامت بإعالة عشرات — وربما مئات — من الأشقياء الذين لا ملجأ لهم.