قرأنا نبذة في جريدة «السفور» لأديبٍ يُحيِّي السيدة الفاضلة «باحثة البادية» ويشايعها في الرأي الذي ارتأته، وحثَّ القوم على الاهتمام بمقابر نوابغ الأمة المصرية وتسمية الأجداث التي تضم الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل «مقبرة العظماء»، لم ننتظر إلى اليوم لنعرف غَيْرَة الكاتبة الفاضلة على قومها ووطنيتها الحارَّة الصادقة، فإن ذلك ظاهر في كل ما خَطَّه قلمها، والسيدات اللائي أسعدهن الحظ بمعرفتها الشخصية وجدن في حديثها ما قرأته في كتابتها من الغيرة القومية والتحمس لكل ما هو مصري خصوصًا والإسلامي عمومًا، فإذا هي دعت اليوم إلى تنظيم آثار النوابغ من أبناء وطنها فإنَّما هي الأديبة الغيورة التي عرفنا، غير أننا لم نفهم بالضبط ماذا يقصد «بمقابر العظماء»، إننا لم نقرأ الخبر إلا في «السفور» وليست تفاصيله هناك صريحة واضحة.
في لوندرا كنيسة تُدعَى «وستمنستر باي» شيدت في عصر هنري الثالث في أواخر القرن السادس عشر، وهي تضم رفات ملوك إنجلترا وأعاظم رجالها، والبانثيون في باريس رُفِعَ ليكون كنيسة، إلا أن الثورة التي غيَّرت كل شيء جعلته مدفنًا لأعاظم الرجال وأطلقت عليه اسم البانثيون ناقشةً عند مدخله جملة شهيرة وهي هذه: «إلى أعاظم رجال الوطن الشكور»، فإذا كانت مقابر نوابغ المصريين محاذية الواحدة للأخرى في مقرها الأرضي الأخير وقصدت حضرة الأديبة أن يُطلَق على تلك البقعة اسم «مقابر العظماء» فالأمر حسن ونحن لا نرى اعتراضًا على ذلك، ولكن إذا كان الغرض من تلك الفكرة جمع الأموال وإقامة البناء المخصص لمقابر العظماء فإننا لا نرى الوقت مناسبًا لذلك.
إن لمصر القديمة من أهرامها العظيمة مدافن لملوكها ومنارة لصحرائها إنما هي أعجوبة الآثار ومُثُل الأبنية، غير أن مصر الحديثة لا تزال في دور الطفولة وهي تقتصر في هذا الدور على رضاعة لبن المدنية العصرية ليس غير، فهي الآن في حاجة إلى شيء آخر، هي تحتاج إلى تهذيب الأحياء وإخراج الرجال منهم، تحتاج إلى قلوب قوية وعقول كبيرة وهمم ناهضة، تحتاج النفوس إلى النمو ليكون أطفالها رجالًا ورجالها نوابغ قبل أن تهتم بمن قضى من النابغين، وأرواح النابغين إنما ترتاح إلى ارتقاء إخوانها الأحياء وتقدمهم في سبيل العلم والفلاح أكثر من ارتياحها إلى رؤية رفاتها تحت القبب الباذخة بين الأعمدة الهيفاء.
فإذا أردنا أن نكرم الأموات ونجعل أثرهم خالدًا فلنُهذِّبِ الأحياء ونُرقِّهِم حتى يجيء يوم فيه يعرفون فضل الموتى عليهم.