تجول في شوارع القاهرة زُمرَةٌ من الشبان والكهول ولا يندر فيها الشيخ، أقليتها من الأجانب اليونان والأغلبية من الوطنيين، لا يعلم إلا الله ماذا يفعل أولئك الرجال وأيُّ مِهَنٍ يتعاطَوْن، لكنْ ما مرَّت أمامهم سيدة إلا نالت من ثقلهم نصيبًا، فكأنهم التَقَوْا ليمثِّلوا دورًا يجعل الناظر أن يهتف: «اللهم ساعد البشر على احتمال البشر!» لست أعني هنا أكثرية الرجال، فلا يندر جدًّا الرجل الذي يرى سيدة جميلة دون أن يُسمِعَها رأيَهُ في أناقتها واستحسانَهُ لمِشْيَتِهَا وإعجابَهُ بعينيها، كأنَّ تلك الأقوال مفروضة عليه ومن ضمن واجباته الاجتماعية أن يجاهر بها فيتم واجبه بأمانة ويسير في طريقه، فليس هذا النوع هو ما أُسمِّيه «الثقيل».
يقول قوم إن الرجل لا يتطاول على المرأة إلا إذا رأى منها بعض التشجيع، وهو قول ينطبق على المُهذَّب من الرجال، وليس جميعهم بالمهذَّب مع الأسف، فإذا كان بعض السيدات لا يعرفن آداب السير في الطريق فيتعرضن بجهلهن لنظرات مُستَهْجِنَة وكلمات لا يُستَحْسَنُ سماعُهَا، إذا كان ذلك وجدنا «للثقلاء» بعض العذر، ولكن هناك سيدات من طبقة أخلاقية أخرى وهُنَّ مع ذلك لا يفلتن من صنوف ثقل الزمرة التي ذكرنا، فإذا رفعت السيدة نظرها باحثة عن طريقها ظنَّ «الثقيل» أنها تبحث عنه، وإذا عبست عند سماعها كلامه ظنَّ ذلك دلالًا وتدفق «لطفه» تَدفُّقَ اليَعْبُوب، وإذا ضاق صدرها فغيرت طريقها هربًا منه حسب ذلك مداعبة، وإذا دخلت تبتاع حاجة في دكان فأول شيء يقع نظرها عليه ساعة خروجها هو وجه الثقيل المسكين، فليقُلِ الأخلاقيون إذًا ماذا تفعل السيدة؟
من المتفق عليه أنه يجب أن تشكو أمرها إلى البوليس، لكن البوليس ليس موجودًا في كل مكان، وكثيرًا ما يغضُّ الطرف عن مثل هذه الحوادث لأنه لا يهتم بها، ثم إن اللائي يُعرِّضْنَ أنفسهن إلى مثل هذا الموقف — موقف الشكوى إلى البوليس — قليلاتٌ جدًّا؛ لأنهن يَخَفْنَ انتقاد المارِّين خصوصًا إذا وُجِدَ بينهم من يعرفها، وكم من مرة تشكو النساء في اليوم وطائفة الثقلاء منتشرة في جميع أنحاء العاصمة.
إن هذه الفكرة — فكرة انتقاد المارين — تُعذِّب المرأة ساعةَ تسير والثقيل يتتبع خطواتها فتُسَائِل نفسها: «ماذا يقول الذي يراه يتبعني على هذه الحال؟» فماذا تفعل، هل تصفعه؟ ولكنها لا تتنازل دائمًا إلى ذلك؛ لأنها تخشى تلويث يدها بلمسه، كذلك تخشى إلفات النظر وتَجَمْهُرَ الناس حولها، فماذا تفعل إذًا؟
لقد أخذ بعض السيدات بالشكوى على صفحات الجرايد وحسنًا يفعلن، وعلى الصحف تأييد شكواهن والعودة إلى هذا الموضوع من حين إلى آخر رغبة في الإصلاح والتهذيب، وعلى كل ذي عِرْضٍ وغَيْرَةٍ من الرجال التشبُّه بما فعله يومًا أحد كبار المحامين:
كان المحامي يتأبَّطُ محفظته سائرًا نحو المحكمة الأهلية بباب الخلق وأمامه سيدة يتبعها «ثقيل» من النوع الذي ذكرنا، كان يرى حركاته ويسمع كلماته متوجِّعًا لثقل الرجل ورَاثِيًا لحال السيدة التي كانت تتأفف حينًا، ثم تنظر شمالًا ويمنة لعلها تجد بوليسًا تشكو إليه أمرها، فيقول لها «الثقيل»: «يا سلام على دي العينين!» وبينا هو كذلك إذا بالمحامي قد قبض على العضو الأكثر بروزًا من رأسه، وهو أذنه، قبض عليها بشدة فصرخ (الثقيل) مُسترحِمًا وهو لا يدري هل اليد التي توجعه يد إنسان أم يد شيطان، أراد أن يلتفت نحو معاقِبِه فلم يستطع لأن اليد الحديدية ظلَّت ضاغطة على أذنه، فتابع السير كالآلة العمياء والمحامي وراءه مدَّة خمس دقائق تقريبًا إلى أن توارت السيدة عن الأنظار، إذ ذاك قال الثقيل وقد وصلا عند باب المحكمة: «في عرضك يا بك». فتركه المحامي بعد تردُّد لأنه ظن أنه قد أعطاه درسًا سيَذْكُره الثقيل زمنًا.