لم تجد الصُّحف كلمة ثناء إلا وقالتها في مدح شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم، وما قصيدته العُمَرِيَّة إلا نغمة مستحبة جرت على وفق مقاطعها آهات الرأي العام؛ لأنَّ الموضوع الذي طرقه تهتز له قلوب المسلمين، فما تمت حتى قوبلت بالاستحسان والتصفيق وتبرع الكرام بنفقات الطبع، وهو أسلوب إعجاب صامت لو خُيِّرَ الشعراء والمؤلفون لاختاره منهم كثيرون، فجاءت القصيدة حسنة الشكل مضبوطة الحركة نظيفة الطبع تتقدمها كلمة ثناء للطابع ومقدمة في حياة عمر بقلم الأستاذ الجليل الشيخ محمد بك الخضري.
قال الطابع في كلمته: «إن هذا النوع من الشعر نادر جدًّا في اللغة العربية». وهو قول صحيح، وإذا استثنينا العمرية وقصيدتين أخريين من نوعها، فلست أدري هل نجد شيئًا آخر يستحق كلمة «نادر»؟!
تنقسم الآداب — عند جميع الشعوب — إلى قسمين: النثر والشعر، فالنثر يشمل الرسائل والمحاورات والخطابة والتاريخ والقصص والروايات، والشعر يكون غنائيًّا أو تهذيبيًّا أو مفجعًا أو قصصيًّا حماسيًّا، فالغنائي عندنا منه كثير، وهو ما نسميه «الغزل والنسيب»، وقد نعثر أحيانًا على أبيات حَوَتْ حِكَمًا تهذيبية وإرشادات أخلاقية، إلا أن الشعر المفجع غير موجود عندنا لأن المراثي قسم من الشعر الغنائي، أما الشعر القصصي الحماسي فلا اسم له عندنا ولا مسمى، لقد استعمل الشعرَ القصصي الحماسي عند الفرنجة كثيرون، وأشهرهم هوميرس عند الإغريق، وفرجيليوس ولوكانس عند اللاتين، وترسينو وطاسو ودانتي عند الإيطاليين، وكموان في البورتوغال، وألونزودي ارثليليا في إسبانيا، وملتن وبارين في إنجلترا، ولا أجد اسمًا فرنساويًّا يمكن وضعه مع هذه الأسماء، وإن كان فولتر قد أراد أن يكون مع هوميرس بوضعه قصيدة «هانرياد».
أعلم أن بعض أدبائنا دعا هذا النوع من الشعر باختصارٍ الشعرَ الحماسيَّ، لكن هذا الاسم لا يؤدي المعنى تمامًا، والشعر الحماسي موجود عندنا ومنه شعر عنترة العبسي مثلًا، وما الحماسة إلا شرط من الشروط المقتضاة في هذا الموقف، ومن تلك الشروط التاريخ، والتعبير الشعري، وجمال الأسلوب، والحماسة، والموعظة أحيانًا كما فعل بعض الشعراء اليونان، وليس هذا النوع من الشعر غائبًا من اللغة العربية فقط، بل تكاد تُحرَم منه جميع اللغات السامية، قال إيولد العالم اللاهوتي والمستشرق الألماني: «إن لغات الساميين شعرية غنائية أكثر منها خطابية قصصية».
أما القصيدتان اللتان ذكرتهما فهما قصيدة بديعة لشوقي بك لا تنحصر في موضوع واحد ولكنها تسرد تاريخ مصر منذ بعيد الأزمنة إلى عهد الحكومة الخديوية السابقة، وعيبها الوحيد أنها تنتهي بالمدح والثناء، وهي القصيدة التي مطلعها: «همَّتِ الفلكُ واحتواها الماءُ» تجدها في الشوقيات، والقصيدة الأخرى لخليل أفندي مطران في مقتل بزرجمهر وهي من أجمل قصائده، يتخللها أبيات تهذيبية وحِكَم أخلاقية وشيء من التهكُّم الشعري غير قليل تجدها في ديوان الخليل.
آخذ بعضهم حافظًا بأنه أراد أن يكتب شعرًا قصصيًّا حماسيًّا فاختصر في موضوعه كثيرًا مع أن ما وضعه الغربيون من هذا النوع يملأ مئات الصفحات، لكنهم أخطأوا في نقدهم هذا لأن زماننا لا يحتمل التطويل على النمط الواحد، وقد فعل ذلك قبل حافظ شعراءُ العهد الإسكندراني من الإغريق فجاءوا بشعر قصصي حماسي كثير غير أنهم اختصروا في سرد الموضوع ونظم القصائد ما شاء ذوق عصرهم الاختصار، وأسجاعهم على ما نعلم تتغير كل سطرين اثنين، فكيف بشعرائنا وهم يستعملون سجعًا واحدًا من أول القصيدة إلى آخرها؟
نؤمل أنَّ عمرية حافظ ستحث الشعراء على التخلص من معاني الماضي فيقلعون عن التغزل بوجه القمر، وبعيون المها التي يجعلونها كل يوم بين الرُّصَافة والجسر وإن لم تمرَّ هناك إلا مرة واحدة في كل هذه القرون الطويلة، ويفتحون لنا عصرًا أدبيًّا جديدًا فيه إذا أرادوا مخاطبة امرأة لا يجعلونها في شعرهم رجلًا، وإذا مدحوا رجل حرب وبطش لا يتغزلون بجماله كأنه فتاة لها عنق الغزال وقوام الغصن وعيون مكحولة بالسحر … إلخ.
والآن تخرج عمرية حافظ من عالم المدح والثناء وتدخل عالم الإفادة والتاريخ.