لمَّا جادت التعطفات السلطانية بمناسبة عيد ميلادها السعيد بلقب باشا على صاحب السعادة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء، تلقى الجمهور هذا الإنعام السامي بالارتياح، لأن جميعنا عَالِم أن سعادة الأستاذ باشا من زمن طويل، ولا نعني بذلك باشويته على عهد الحكومة الخديوية السابقة، بل نعني أنه كان وسيظل دائمًا باشا في عالم العلم والفضل.
كان لامرتين يقول في صديقه الفيكونت ده فيريو أنه يمكن أن يستخرج منه عشرة رجال، وأرى أن ذلك القول يصح إطلاقه على سعادة الأستاذ الذي لا أدري أين يجد الوقت للقيام بكل ما يفعله، فوظيفته الكبيرة تستغرق أعمالها ساعات كثيرات يوميًّا، وسل عنه بعد الظهر تجده غالبًا في المكتبة الزكية سعيدًا في اختلائه بكتبه العديدة ومناجاة أرواح المؤلفين، لكن انشغاله في ذلك لا يمنعه من ملاطفتك وتلبية طلبك أيًّا كان، وإذا سألته في أمر علمي أو استجوبته في مسألة تاريخية «خصوصًا إذا كانت ذات علاقة بالعرب» فسرعان ما تتهافت على يديه الكتب من مخابئها وتبعث الأسرار التاريخية من قبورها!
يبحث وينقب فنطبع كتب العرب بتحقيقه، ويدرس ويكتب قائمًا بالحجة على صحة موضوع شغفه به وهو عظمة العرب، ومع ذلك لا تفوته في القاهرة سهرة لطيفة أو حفلة أدبية، فإن لم تره في صدر القوم يومًا فابحث في محليات الصحف تعلم أنه كان في تلك الساعة مُتمِّمًا أمرًا يتعلق بوظيفته أو قاضيًا حاجة تعود بالخير على الأزهر أو على الجامع الأحمدي، وإلا كان حاضرًا جلسة في الجمعية الجغرافية، أو ملقيًا بحثًا في المجمع العلمي المصري عن «كأس صلاح الدين» أو تاليًا محاضرة فرنساوية في جامعة الشعب عن «مصر الإسلامية».
إذا ذكرت الجمعيات عند الغربيين فلسفية كانت أو علمية أو اجتماعية أو خيرية، لصالح الإنسان أم للرفق بالحيوان؛ أثبت لك الأستاذ أنها كلها عربية ابنة عرب، وإذا خطر ببالك — أيها الجاهل — اسم الغواصة والطيارة والتليفون والتلغراف اللاسلكي والتلكس وغيرها، فاعلم … ولكن لا، لا تعلم شيئًا، بل سل زكي باشا تعرف أن لهذه الاختراعات ولكثير غيرها أصلًا غير الأصل الحديث الذي تظن!
واليوم تحوي طنطا علمه وفضله، فإنَّ جمعيتَيْ الاتحاد والإحسان السوريتين للرجال والنساء تقيمان حفلتهما السنوية في تياترو البلدية بتلك المدينة، وبينما أنا أكتب هذه الكلمة أرى زكي باشا يخطب في ذلك الجمع البعيد، وإذا سألتني عن موضوع خطابه فلا يمكنني الجزم فيه ولكني أظن أنه لا يتعدى هاتين النقطتين في هذا الموقف: فإما أن تكون «الإحسان عند العرب»، وإلا فهو «نبوغ المرأة العربية في الأندلس».