اعتاد جمهور من المصريين والسوريين مغادرة وادي النيل في مثل هذه الأيام لقضاء فصل الصيف في سوريا، ولمَّا كان الأوان أوانها، فقد غادرتُ بالأمس وادي النيل العزيز لأتمتع بسياحة صغيرة في أرضنا السورية القديمة (طب نفسًا يا سيدي الرقيب، إن رحلتي الصغيرة خيالية فقط).
ما أعذب ساعات السفر على رغم ما فيها من المرارة بنت الفراق دائمًا! وما أعذب تلك الوقفة التي طالما وقفناها على سطح السفينة المودعة قبيل الغروب! وما أعظم مشهد الغروب في مصر! ناظرين أمامنا إلى الثغور العامرة، وإلى ما بعدها من أراضٍ رحيبة ومروج خصيبة، وقُرى آمنة، وبلاد آهلة وآثار خالدة المجد، لا تزيدها مواكب الأزمان إلا هيبة وجلالًا، ولما كانت ترفع السفينة سلالمها، وتشد حبالها وتضم إليها مرساها، وتصرخ وتلهث آخذة في المسير على صفحة المروج المائية، كانت تنطلق من أعماق القلب صلاة حارة لمصر وطن الروح الغالي: «يا مصر حنِّي علينا بالرجوع إليكِ» ثم تمر بنا الساعات الطوال حابكة أواخر الليل بأوائل النهار فما نفتح عيننا في الصباح إلا على مرفأ فنُحيِّي الوطن القديم قائلين: «سلام يا سوريا الصغيرة الجميلة».
كالملكة على عرشها تجلس يافا على شطها، وفي البعيد تدور حولها الحدائق والأشجار كهالة سندسية وتنطلق منها أرواح البرتقال والليمون مختلطة برائحة المرارة البحرية القوية.
من يافا تتفرع الطرق الكثيرة إلى الداخلية: هذه طريق تنتهي إلى بيت المقدس المكفنة بجلال تاريخها وبالكآبة الدهرية الحائمة على آكامها وسهولها، وتلك طريق تسير نحو الخليل وغزة، وطريق غيرها إلى السامرة الجثوم إلى صدر جناتها الشائقات، وفي أهوائها ترفرف أرواح الفل (واليوسف أفندي) كأجنحة عطرية وكأن السامرة بجمودها مُصغِية إلى نشيد مياهها المتدفقة من كل جانب، ذاك النشيد المتواصل وفي حلاوته عظمة تهليل وتكبير.
وراء السامرة جبال كثيرة الأخربة وسهول عديدة الآثار، وقرى كأنها مقاييس خطوات الزمان، ثم جانين القائمة في مدخل مرج ابن عامر وهو ساحة قتال الفلسطينيين الكبرى حتى أيام نابليون، من ميناء يافا تسير الباخرة ساعات أربعًا في آخرها سلسلة جبال الكرمل الآتية من جبال الزيتون، فجبل غاريزيم فجبال إفرانيم واليهودية، حتى تنتهي برأس الكرمل وراء حيفا، وتمد آكامًا صغيرة إلى مدخل مرج ابن عامر.
كذلك في حيفا سبل متفرعة إلى أنحاء شتى: منها طريق تسير على شفة البحر إلى عكاء المعروفة بتاريخها وإلى حديقة «البهجة» وهي أجمل حديقة في تلك البقعة، تزيد في أهميتها جيرتها لبستان العجم وطن الورود ومسكن عباس أفندي كبير البهائيين، وهو معروف هناك باسم «إله العجم» ثم تمتد الطريق إلى صور ابنة صيدا وأم قرطاجنة، صور التي قد شُيِّدَت على ما يقول المحدثون بأمر من تيروس سابع أولاد يافث بن نوح، ويقال إن اجنيور الطروادي قد سكنها مع أبنائه الثلاثة؛ قدموس رافع جدران ثيبا وناقل الأبجدية إلى بلاد الإغريق، وفينيكوس الذي أعطى اسمه إلى فينيقيا الواسعة، وأوروب الذي أعطى اسمه إلى أوروبا، من صور انطلقت القوافل النشيطة فانشأت المستعمرات في أماكن لم تكن تعرف معنى العمران، شاهدت قرطاجنة منافسة روما، وأوتيكا التي كانت من المدن الأفريقية الزاهرة بتجارتها، وقاديثا الأندلسية التي انطلق منها الإسبان للبحث عن عوالم جديدة.
صور المحطة الكبرى للمواصلات مع جميع أقطار العالم المعروف يومئذٍ، سفنها تجتاز البحار طولًا وعرضًا إلى ما وراء إنجلترا من جهة وحتى جزائر كاناري من جهة أخرى، ولتجارتها مستودعات في خليج العجم وعلى ضفاف البحر الأحمر، ولم تكن تجهل قوافلها بلاد العرب وطريق الهند.
ومن صور تجري الطريق إلى صيدا التي تسميها التوراة «صيدا العظيمة»، وقد أغرى جمال موقعها ووفرة ثروتها عشرات المحاربين ذوي الأسماء التي تترك في التاريخ دويًّا، حول صيدا ما زالت الطبيعة شابة باسمة، حولها الآكام المُكلَّلة بالأشجار وفي بساتينها تكثر الأثمار، وتملأ الفضاءَ روائحُ التمر الهندي والورد والموز وزهر الليمون وأمامها يتابع البحر أنشودته التي لا تنتهي.
من حيفا طريق أخرى تؤدي إلى الناصرة، فقانا الجليل، فقرون حطين — القائمة بين جبلي الطور وحرمون، والمشرفة على بحيرة طبريا الحزينة — ثم طبريا، ثم تتوغل الطريق في أنحاء تكثر حركاتها الطبيعية ويسكنها عرب المضارب ذوو العيون السوداء الطويلة، حتى قيصرية فيليب القائمة عند قدم حرمون «جبل الشيخ» ثم الصحراء، ثم الواحات ذات الخضرة الوافرة والأشجار الظليلة، تجري فيها السواقي كأفاعٍ من نور وتثقل الهواءَ عطورُ الورود والياسمين، ثم تسمع تنهدات الأنهار العظيمة الجارية في قلب دمشق (مليكة الصحراء).
وهناك وراء ستار الأشجار الباسقة وتحت غصون حب الآس المتدلية ينام صلاح الدين الكبير، وأنهار دمشق تتنهد مهمهمة في أذن الجبار لتجعل نومته طويلة عذبة.
تغادر السفينة ميناء حيفا إلى بيروت، بيروت! ترى من ليس له في بيروت ذكرى إذا كان سوريًّا؟ منها تسعى القطارات الحديدية، هذا على حافة البحر إلى حين، ثم تتفرع من هناك طريق تسير طلوعًا إلى أعظم أثر تاريخي عرفه العالم حيًّا: أرز لبنان! وذاك قطار آخر يصعد على أكتاف الجبال، مارًّا بأشهر المصايف، فمنحدرًا إلى سهل البقاع بين سلسلتي لبنان وأنتي لبنان، فيرى بعلبك وقلعتها المُحطَّمة العجيبة، وحمص وحماة، وحلب الشهباء جارة تلك البلدة التي شرَّفها اسم شاعرها العربي، فيلسوف الشك واليأس والمرارة أبو العلاء المعري.
هذه صورة مصغرة لسوريا بمدنها الكبيرة وما يتخللها من بلاد ثانوية، وقرى وسهول، وأطواد ووديان، وأنهار وبحيرات وأحراج وصخور، رأيتها في رحلتي الخيالية ورأيت فيها الرعاة سائرين وراء قطيعهم على أكف المروج، ينغمون على القصب ألحانهم الطويلة الحزينة، ورأيت سكان الجبال مجتمعين تحت الأشجار الكبيرة، ينشدون في ضوء القمر أدوار «العتابا» تلك الأدوار القديمة التي تشبه أنَّات الثكل وآهات النواح.
لقد عدت من رحلتي بالسلامة، ولم أحمل منها دمعةً يعزُّ عليَّ مسحها … ربي! سوريا التي تُدِرُّ لبنًا وعسلًا كيف تموت جوعًا؟
ربي! وراء السماء الواسعة، وراء الشموس والسيارات الدائجة في أبراجها العميقة، وراء ملايين الشموس والسيارات التي لا تراها شموسنا وسياراتنا ولا يلتقي نور نورها بظلام ظلامنا، وراء المجرة التي تضم عوالمنا الفلكية، وراء جميع هذه العجائب الرائعة التي هي أجزاء منك ومظاهر من قدرتك، وراء كل ما لا يُرَى وما لا يُدرَك، هل تصنع شيئًا عظيمًا هائلًا تجبله بدموع البشر صغارك؟!