قالت مكاتبة صحيفة إنجليزية كبرى في مدح مدام ولسن: «لقد شعرت حالًا بأنها ليست بالمرأة الاجتماعية لأنها صافحتني بإخلاص، وفي لمس كفها قوة وعزم وصراحة». ونحن القارئون هذه الجملة بعد أن عرفنا من رئيس الولايات المتحدة شخصيته المعنوية الظاهرة في خطبه، نفكر هنيهة قائلين: «أيمكن أن تكون امرأة الدكتور ولسن امرأة اجتماعية محضة؟ إن ذلك لمستحيل!» ليست المرأة الاجتماعية بغير المحمودة بل هي ممدوحة دائمًا في الاجتماعات والأندية، يشترط أن تكون موجودة في دائرة الحامدين، أما إذا كانت غائبة فإنهم يمدحونها كذلك مضيفين إلى الثناء العطر كلمة «لكن»، تلك «اللكن» الرهيبة التي لا يفلت من أشواكها أحد: «هي من أجمل النساء لكن …»، «هي من أفضل من عرفت لكن …»
والمرأة التي تجد في نفسها ما يدفعها إلى أن تكون أقل «اجتماعية» من المرأة الاجتماعية الصرفة، الويل لها ثم الويل! إن هناك نعتًا يعانق اسمها في جميع صالونات «أصدقائها»، إنها تُنعَتُ بالشَّاذة!
المرأة الاجتماعية من ثمرات المدينة الحديثة، وبما أنها موجودة في أوروبا فقد تحتَّم وجودها بيننا، وإن كان «الاجتماع» عندنا مفقودًا بالمرة، وذلك الاسم يعم المرأة السافرة والمرأة المحجوبة على السواء، عندنا سينماتوغرافات وتياترات وكونسرتات، وعندنا أناس يخطبون ويتزوجون، وعندنا زائر ومُزَار، وضيف ومُضَاف، وعندنا أمراض وأفراح وأتراح وخياطات وأطيان ومنازل، فمن يتحدث بجميع هذه الأشياء، ومن يروِّج الأخبار وينشرها في جميع أنحاء المدينة إن لم يكن المرأة الاجتماعية والرجل الاجتماعي؟
المرأة الاجتماعية الأوربية تكون في الغالب على شيء من العلم لتتمكن من محادثة ضيوفها أو تفتح لهم باب الحديث على الأقل في موضوعات مختلفة، ولا بد أن تكون على جانب عظيم من معرفة آداب الصالونات والاصطلاحات الاجتماعية لترضي زائريها وتفترق وإياهم على سرور وسلام، لكن المرأة عندنا تتنازل عن هاتين الصفتين مكتفية بكل ما عداهما من إتقان اللبس والزوزقة وكثرة الابتسام والتهكم بلطف والانتقاد بمرارة والثرثرة التي لا طائل تحتها، وما أكثر ما عندها من أخبار «الدوطة» والوراثة «والتروسو» والشاي عند سولت «والجلاس» عند جروبي، حتى لقد يدهشك ما تسمعه من هذه الصحيفة الحية وتظن نفسك عائشًا في غير هذه المدينة وفي غير هذا العالم عندما تتراكم على رأسك تلك الأحاديث التي تنتهي الزيارة وهي لا تنتهي!
إذا كانت هذه العلائق الاجتماعية ضرورية لاشتراك البشر في الحوادث القومية فإن فيها واسطة للقضاء على قوة الفكر وملاشاة صدق العواطف، إن الذي يتكلم كثيرًا يفتكر قليلًا، والذي يحب جميع الناس لا يحب أحدًا على الإطلاق؛ ذلك لأن قوة الإنسان واحدة، فإذا تحوَّلت إلى الخارج كلامًا وثرثرة ضعفت في الداخل، والعكس بالعكس، وشقاء العائلات آتٍ من تلك الثرثرة الاجتماعية التي هي مع المقامرة أوجع العلل الإنسانية في أيامنا.
على أن هذه الحرب مغيِّرةٌ كل شيء، لقد تألمت المرأة كثيرًا، والألم مهذب قادر يلاشي الإضافات التافهة وينبه في المرء ذاته الحقيقية مساعدًا إياه على إدراك مضي الحياة، وكاشفًا له النقاب عن وجهها الجميل، وسوف تبرز المرأة أكثر ذكاء ونشاطًا وأصدق قولًا وأعمق عاطفة وأتم جمالًا، سوف تنهار بينها وبين الرجل تلك الجدران الدهرية التي أقامها الجهل والاستبداد، سوف تكون مصافحتها كمصافحة مدام ولسن قوية مخلصة مستقلة صريحة، سوف تفتخر حين يقال عنها إنها ليست بالمرأة الاجتماعية الصرفة، ولا يكون ذلك إلا مضيفًا إلى عذوبتها النسائية المصطلح عليها عذوبة قلبية أكيدة.
ونحن اللائي نقلد الأوربيات في كل شيء لا بد أن نقلدهن في ذلك الارتقاء المتعالي فوق ارتقاء الآلات والأزياء، هُنَّ تألمن في هذه السنوات الأربع فاتخذن ألمهن سُلَّمًا للارتقاء، فلنذكرن أننا نتألم من زمن طويل! إذا كان الألم مقياس التقدم، فمن ذا الذي حكم علينا بهذا التقهقر المُغلَّف بصدأ الأجيال؟