إذا ظُلِمْتُ يومًا أو تهددني شقي بالغدر أو خشيت سوء معاملة أحد، التجأتُ إلى هيئة القضاء وما يمثلها من دوائر الأمن العام كالمحافظة والقسم ونفر من البوليس … إلخ، حتى إن مجرد وجود البوليس في مكان يجعل الناس آمنين، وذلك ليس في الحقيقة فقط، بل في عالم الأحلام كذلك، إن البوليس في الحلم يعني النظام والأمن والسلام، ولكن إذا نزل بإحدى هذه الدوائر خلل ما — وهي أنظمة بشرية قابلة الخطأ — وكان ذلك الخلل سيء العاقبة على الشعب، وإذا أخطأت هذه الدوائر سهوًا أو إهمالًا؛ فإلى من ترفع الشكوى، وإلى من يلتجئ المتظلم؟
بالأمس حكمت المحكمة بالإعدام على مجرم رأت أن جُرْمَه ثابت لا شبهة فيه، فنُفِّذَ الحكم وأُعْدِمَ المسكين شنقًا، وكان صباح وكان مساء فصرَّحت المحكمة باشتباهها بثبوت الجريمة، وكادت تقول إن الرجل بريء، وما زال المولجون بالأمر يراجعون أوراق تلك القضية للبت النهائي في براءة الرجل، ولكن ماذا ينفع هذا البت بعد ذلك التصريح وللرجل المذكور عليه ذرية وأولاد ليس لهم من يعولهم؟ بل ماذا تنفعه البراءة وقد ذهب مظلومًا فخسر حياته وهي الشيء الوحيد الذي لا يُعوَّض؟ واليوم سمعنا أنه جيء برجل في حالة سُكْر إلى قسم الخليفة وسُجِنَ في سجن القسم وانتحر في خلال الليل، فعلى من يقع دم هذا المسكين الآخر؟ تذكر رصيفتنا «الأهالي» أن هذه السجون العارية الرطبة قد تجلب للموقوفين فيها أمراضًا شتى في هذا الفصل، وقد تكون تلك الأمراض قاضية عليهم بسرعة أو تظل داء عضالًا يشقَوْن به فوق شقائهم طول حياتهم التَّعِسَة، وهو قول حق وعلى الحكومة أن تعيره ما يستحق من الالتفات، أما نحن فنودُّ أن نفهم كيف يُؤتَى بامرئ إلى القسم في حالة بلغت منها الشدة أنها أدت بصاحبها إلى الانتحار، كيف يكون هذا فلا يُلتَفَتُ إلى ذلك العليل ولا يُراقَبُ حينًا حتى تخف وطأة الشراب فيستسلم إلى النوم ناسيًا في حضنه أوجاعه وتعاسته؟
من يدرينا ما هو السر الذي دفع به إلى السُّكْر فالانتحار؟
ترى متى تذكر الحكومات أن المجرم مريض أكثر منه مذنب، وأنه خليق بالرحمة والتمريض والمعالجة أكثر منه بالقسوة والإهمال والخشونة؟ ومتى تذكر أن ما تنفذه عليه من الأحكام ليس الغرض منه الاقتصاص بل تهذيبه ومنع شَرِّه وحماية صوالح الذين يتهددهم مرضُه العصبي أو الأخلاقي، متى تذكر أن العدل نفسه يقضي بالتخفيف من أوجاع الشقي، وأنَّ آخر كلمة ترتعش على شفاه البشر أمام الضعيف هي كلمة حب وغفران، وليس كلمة كره وانتقام؟