مات علوي باشا، ولئن ذكرت الخدمات الجليلات التي أدَّاها في حياته الطيبة بالثناء؛ فإن موته يحدث فراغًا كبيرًا، في مكانين ملأهما إلى اليوم بأهلية وكرامة: الطب والجامعة المصرية.
لو كنت شاعرًا لقلت إن الأمطار المتدفقة في هذين اليومين ليست إلا دموع عيون تعهدتها عنايته وشفاها علمه؛ فجاءت الآن تبكيه، لكن له من شهرته الواسعة وثقة الجمهور به وإجلال القوم له ما يغنيه عن قريض الشاعر ونثر الناثر، ولم يقتصر في تقدير كفاءته وإكبار خبرته وعرفانه على الجمهور المصري فحسب، بل تساوى في ذلك الأجنبي والوطني، والكبير والصغير، فقد سمعت علَّامَتَنا الدكتور صَرُّوف يقول — وقد أصيب في عزيز له في بصره: «يعالجه جمهور من أحسن الأطباء، لكني أنتظر رأي الدكتور علوي باشا لأكون على ثقة من الأمر». ولم يندر سماع مثل هذه الكلمة المصرية عن ثقة قوية واستسلام تامٍّ من الأوربيين رجالًا ونساء، مع أنَّ أهل الغرب لا يركنون عادة إلى طبيب من غير جنسيتهم.
أما الجامعة المصرية فكان يصرف فيها من وقته شطرًا كبيرًا غير مُبالٍ بما تُكبِّده أمورُها من نَصَبٍ وكَدٍّ، شأن الذين يحبون شيئًا فيرون التعب لأجله راحة، ويحسبون القيام بالواجب تقصيرًا، فكنت إذا دخلت الجامعة فإما تجد عند بابها مركبة الدكتور علوي، وإما تلتقي به في بهوها، أو تسمع صوته في إحدى غرفاتها، ووقت غيابه عنها كنت تشعر بحضوره قلبًا وروحًا، وترى خياله صاعدًا سلمها عاملًا في إدارتها مهتمًّا بضبط حساباتها وتحسين شؤونها.
أذكر أني كنت يومًا في دار الجامعة مع خالد الذكر الدكتور شلبي شميل منتظرين محاضرة المسيو كليمان في بهو الدور الأعلى، فما استقر بنا المقام حتى فتح باب غرفة الأعضاء وخرج هؤلاء بعد انفراط عقدهم، وكان الدكتور علوي باشا آخر الخارجين، ولم يقع بصره على الدكتور شميل حتى هتف هُتَاف السرور وامتدت يده مصافحة: أهلًا يا دكتور، فقال الدكتور شميل مازحًا كعادته: ماذا تفعل هنا بعيدًا عن «العيون»؟ (مشيرًا إلى مهنة الرمدي)؛ فابتسم الدكتور علوي باشا كمن يقول: «هذه الجامعة التي تحسبها بعيدة عن مهنتي هي أعز العيون لديَّ، وأجملها في نظري؛ لأنها إحدى عيون الأمل المُطِلَّة بقومي على آفاق العلم والارتقاء».
لعل كارليل الكاتب الإنجليزي لمَّا قال في العاملين بهدوء وصمت لخير أمَّتهم إنهم «ملح البلد» أراد بهم أمثال علوي باشا، إن الأعمال اليومية المتتابعة تستدعي شجاعة عظيمة وثباتًا مستمرًّا، وقد تكون أحيانًا أكثر فائدة وأجلب خيرًا من أعمال باهرات تُدوِّي بذكرها الأندية، فإذا قام كبار الأمة المصرية يؤبِّنُون هذا الكبير ويُمجِّدون خدماته الطيبات؛ فأحرى بالجامعة المصرية ومن فيها من أعضاء وأساتذة وطلبة أن يبكوا المساعد المُجِدَّ والعامل المخلص لترقية هذا المعهد الأهلي الجليل.