سمعتُ في هذا الصباح رنين نواقيس الأعياد، وإذا بيوميَّتي تنبئني بأن اليوم (خميس الجسد)، مالي وتحديد معنى الكلمة لاهوتيًّا وفلسفيًّا، واصطلاحات تقرير الكرادلة، وإثباتات المجامع الدينية! كنت وما زلت أعتقد أن الدين سِرٌّ بين الخالق والمخلوق، وأنه تعالى ما دام إله القلوب والنِّيَّات، فهو لا يهمه من عبيده سوى الإخلاص في الأعمال والأقوال إخلاصهم له في خفايا الأفكار والضمائر، وما بقي الإنسان مُصغيًا لصوت نفسه، عاملًا بما يوحيه إليه همس الضمير النقي؛ فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
على أن هذا العيد يُذكِّرني بعهد مضى، أغمض عيني عن هذا المحيط فينطلق فكري سراعًا إلى بقعة قائمة على شفة البحر المتوسط حيث الزهيرات الجميلات يفتحن أكمامهن على صفحة المروج وعند معاطف الجبال، وحيث تمتزج بالهواء أرواح النعناع، والصبَّار والليمون والياسمين، ينطلق فكري إلى سوريا كما كانت قبل أن تُدوِّي في جوانبها لمعةُ المدافع، يومَ لم تكن تزعج فيها حركةُ المدنية سكوتَ الأجيال، فكان جوها هادئًا صافيًا فوق جمال الطبيعة المهيب، لا يُسمَع فيه إلا تغريد الأطيار الثرثارة، وتصفيق الأجنحة السيارة.
أما في مثل هذا اليوم فكانت تملأ الفضاء أناشيدُ البشر فتحمل إلى الأفق أثر أشرف عاطفة تهز القلب الإنساني، وهي العاطفة الدينية، فقد يُحتَفَلُ به في عينطورا على أحسن ما يرام من الجمال، فتشترك في تكوين الموكب مدرستا البنات لراهبات الزيارة والصبيان للآباء العازاريين، ويضم إليهما أهل القرية أجمع، ونفر غير قليل من سكان القرى المجاورة، ولما تخرج الفتيات من دير الزيارة إلى مدرسة القديس يوسف كن؛ يجدن (الدورة) سائرة في حديقة المدرسة تتخلل موكبها الأعلامُ الدينية والموسيقى وصفوف المرتلين من تلاميذ وآباء عازاريين، وكانت تلك أواخر أيام المرحوم الأب ألفونس ملياج رئيس مدرسة عينطورا الشهيرة.
وبعد الصلاة في الكنيسة كنا نخرج بأعلامنا وأناشيدنا إلى تلك الطريق المتعرجة من أعماق الوادي صعودًا إلى كتف الجبل بين الصخور الرابضة كالأسود وغابات الصنوبر الممطرة؛ فنلقى في سبيلنا هياكل بيضاء نصبت تحت الأشجار الكبيرة وفاحت حولها روائح البخور، فنقف عند كل مرحلة من تلك المراحل، وتتضامن أصوات الجمع في ترتيل نشيد واحد تتماوج رنَّاته في قلب الطبيعة الصامتة، وذلك النشيد فوق الجبال المصغية تحت الشفق إزاء البحر البعيد المختلطة حدوده بخطوط الأفق، لم يكن أعظم منه شيء، ولا أعمق منه أثر!
وكان الهيكل الأكبر يقام على مرتفع الجبل أمام كنيسة «سيدة السنديانة»، وقد دُعِيَتْ بهذا الاسم لأنها في جيرة سنديانة كبيرة كنا نقف تحتها فتحضن جمعَنا غصونُها المتدلية، بينما يقوم فينا الأب ملياج خطيبًا، حتى إذا انتهى الاحتفال عدنا كلٌّ إلى مدرسته أو بيته حاملًا من تلك الساعة أعذب تذكار.
كذلك كان هذا الاحتفال في الناصرة بفلسطين، فيشترك فيه جميع أهل البلدة من نساء ورجال، ويسير الموكب في الشوارع مرتلًا حتى ينتهي إلى كنيسة «دير البنات» القائمة على أَكَمَةٍ عند مدخل الناصرة، وما كان أعظم هيبة الأناشيد وقوة تأثيرها بقرب مدافن الموتى من الآباء الفرنسيسكان في تلك الحديقة الغَنَّاء.
فلسطين الناصرة عينطورا! أيتها الأسماء العزيزة، كم من ذكرى تتضمن حروفك، وما أكثر ما فيك من عذوبة طاهرة تهيج الحنين والشجن! ما أجمل ما فيك من رياض تسقيها مياه الأوطان وغابات مختفيات في حنايا الجبال الشامخات! وما أعز من يعيش في ربوعك من أهل وحبيب! وما أغلى ما حوته مدافنك من رفات موتانا!
كتاب الحياة، ترى هل للعيون نصيب من مراجعة قراءة صفحات منك جميلات قلبتهن يَدُ الأيام؟!