اعترض مُعترِضٌ على مقالي السابق قائلًا: «أين الحركة النسائية عندنا، وكيف نكتب في موضوع أهمُّ ما يُقال في تحديده أنه موجود بيننا وجود العنقاء؛ أي بالاسم ليس غير؟ إن ما يسميه الغربيون «حركة نسائية» يعني ارتقاء المرأة المتزوجة (ذلك الارتقاء الظاهر في إدارة بيتها وتربية أطفالها، وفي جعل أسباب الهناء موفورة لمن هم حولها وتحت سلطتها) وارتقاء المرأة العازبة على السواء، هي حركة مؤلَّفة من معارف واسعة، وخبرة متنوعة، وممارسة علوم كالفلسفة والفلك وغيرهما من الفنون كالطب والمحاماة والتجارة والتمريض وما نحوها، هي تنبئ عن تأليف جمعيات خيرية وأخلاقية وأدبية لمساعدة المحتاج، ومحاربة السكر والعاهات الأخلاقية، وحماية الفتيات اللائي ليس لهن من يلتجئن إليه، تلك «الحركة» تتناول التوظف في مصالح الحكومة والجلوس في كراسي القضاء، كما هي الحالة في أمريكا وأسوج ونروج وإشغال مكان مهم في المجالس العلمية كمدام كوري، والآنسة شاندون في فرنسا، ومدام لافيروف في نروج وغيرهن، بل إن تلك الحركة تتناول المطالبة بحقوق الانتخاب والتربع في المقاعد النيابية، وهو أمر تقرر الآن في أعظم ممالك أوربا كما سبق تنفيذه في أمريكا، هذا ما نسميه حركة نسائية، فأين نحن من ذلك ونساؤنا راتعات في بحبوحة الحياة التي لا تستوجب جهادًا وهُنَّ لا يحسبن حسابًا لغير زينتهن وزياراتهن واستقبالاتهن، ولا يقرأن من ثمرات المطابع إلا الروايات ومجلات الأزياء، ولا يعرفن من حوادث العالم إلا ما يمثله المرسح والسينماتوغراف، يتكلمن لغة ويخلطنها بلغة أخرى، ومعارفهن الفنية لا تتعدى توقيع بعض الألحان على البيانو وإنشاد قطع موسيقية ملَّتْهَا الأسماع والنفوس، ولا نرى فصلًا في تربية المرأة ووجوب تعليمها وارتقائها إلا يكون من قلم الرجل، إذ ليس بين النساء من تكتب، إذا كان هذا ما يُدعَى حركة نسائية فتُرَى كيف الجمود؟»
إن الاعتراض كالانتقاد من أسهل الأمور، وفي الاعتراض كما في الانتقاد شيءٌ من الحقيقة في الغالب، فإذا قلنا إنَّ لا حركة نسائية في العالم إلا حركة الجلوس في السربون، ورصد النجوم في أكبر مراصد الغرب، والمطالبة بحقوق الانتخاب والتصويت في مجالس النواب، إذا قلنا ذلك يئسنا من تحسين حالة المرأة الوطنية ورفع مستوى فكرها ومعارفها، إن الذي ينظر إلى ما فوقه كثيرًا دون تقدير مزاجه ووسطه والظروف المحيطة به واعتبار ما بينه وبين من يقصد التشبه به من الفروق الطبيعية والاجتماعية، فذلك ليس بالمصلح ولا بالمصطلح، بل هو فوضوي صرف.
أذكر أني قرأت منذ شهور قريبة مقالًا لإحدى كبيرات الكاتبات في أوربا بعنوان «النهضة النسائية في الصين»، أثبتت فيها أن أهم مظهر من مظاهر تلك النهضة التي تبشر بمستقبل باهر في نظرها هو أن بعض البيوتات الأكثر محافظة على تقاليد الجدود فتحت أبوابها للمعلمات الغربيات اللائي دخلن لإلقاء الدروس بلغتهن الغربية على الفتيات الصينيات، وتعليمهن علوم أوربا وفنونها، وإطلاعهن على ما هو جارٍ من جليل الحوادث في العالم.
فإذا جاز أن تُسمِّي هذه نهضةً نسائيةً جاز لنا — نحن اللائي حُزنَا ذلك منذ سنوات تذكر — أن ندَّعي وجود مثل تلك الحركة بيننا، نعم إن جلوس النساء في كراسي العلم والقضاء والنيابة مظهر من مظاهر نهضتهن المباركة، مظهر فقط، ولكنَّ جوهر تلك النهضة وأساسها قائم في الأعمال اليومية البسيطة، في ما تتعلمه كل امرأة من درس جديد، وتصل إليه من خبرة مفيدة، وتتوق إليه من الرفعة الفكرية، وتأتيه من الإصلاح في وسطها مهما كان حقيرًا، الارتقاء ليس ككرة المدفع المندفعة بقوة، بل هو حركة بطيئة يتتابع سيرها، ولا يفطن إليها المرء إلا يوم تصبح شيئًا بارزًا كبيرًا، وتلك الحركة موجودة عندنا وليس بطؤها بالشاهد على عدم وجودها.
أما كون الرجل مُوجد هذه الحركة ومؤيدها ومنشِّطها فهو أمر لا ريب فيه، وقد اعترفت به في مقالي السابق، لئن كان مجموعنا راتعًا في جهله ودعواه وهو بهما سعيد، فإن الأفراد منا تعلموا وتثقفت عقولهم واطلعوا على ما جاء به الفكر الغربي من اختراع، وما وصل إليه من ارتقاء، وقد وقفوا كذلك على نهضة المرأة الغربية، ولمَّا أن قابلوا بينها وبين أختها الشرقية شعروا بالهوة الهائلة بينهما وتألموا لذلك الانحطاط البادية آثاره في بيوتهم ومجتمعاتهم وجميع أحوالهم، وقد أوجد ذلك الشعور قاسم أمين وكُتُبه وفصوله في تحرير المرأة وإصلاح حالها، وما زال موحيًا جميع المقالات التي يُعالَج فيها ذلك الموضوع الخطير.