… قد وقفت على فكرة إنشاء جامعة لسيدات حلب الكرائم فاستحسنتها أيما استحسان، كل ما أسمع عن أخواتنا الحلبيات أنهن جميلات عذبات، ولقد أنست بلقاء بعضهن فتحققت بالخبر ما أوصله إليَّ الخبر، ولكني أعترف بأني على جهل تام من حيث حالتهن الفكرية والمعنوية، ولا بد أن تقع مسؤولية جهلي هذا على أديبات حلب اللائي لا يوقفننا على تفاصيل الحركة النسوية في ربوعكم، لا أدري هل في الشهباء جمعيات خيرية وأدبية للنساء، ولكن كيف كانت الحال، فإن تكوين جامعة السيدات حسن العائدة جليل الفائدة، ولا أخال الراقيات من سيدات حلب إلا مباشرات بإنشاء تلك الجامعة ذات الغاية النبيلة الثلاثية؛ لأنها وطنية واجتماعية وأخلاقية جميعًا، ولا أرى (جامعة السيدات) في بيروت إلا مُرحِّبة بشقيقتها وسمِيَّتها الحلبية.
زعم سقراط الفيلسوف اليوناني — الذي دُعِيَ أبا الأخلاق لأنه أول من تكلَّم عن الأخلاق في بلاد اليونان — أن الخطيئة هي الجهل بعينه، وأن لا خطيئة مع المعرفة، ولئن شوَّه هذه النظرية بعض الخطأ فهي ككل نظرية سواها على جانب من الصواب، كثيرون يعلمون أن ما يفعلونه شر ولهم من ينبههم ويرشدهم ولكنهم لا يرتدعون ويظلون يأتون العمل السيء بقوة العادة الفردية أو بقوة الوراثة المتغلبة على الإرادة أو بضعف المقاومة في النفس، ولكن من الناس من يود أن يعلم ماذا عليه أن يعمل، وأي سبيل يسلك، وإلى أية وجهة يقصد، فلا يستطيع أن يعلم، يود أن يجد ناصحًا حكيمًا يدله إلى طريقه واستثمار ما لديه من الاستعدادات والممكنات فلا يجد، يود أن يهتدي إلى مؤدب يثقِّفُه ولو بقسوة وعنف فلا يهتدي ويبقى ألعوبة تتقاذفه أمواج الأحوال حتى «يتعلم» مع الزمن، ولكنه يتعلم بعد فوات الفرصة فيخسر المجتمع ما كان يناله من خير على يده لو سار على هدى منذ مطلع السبيل، ذاك هو الجاهل المرغم، ذاك هو الحائر الشقي، ذاك هو المظلوم في الحياة، ذاك هو الضحية.
وهذا النوع موجود بين النساء أكثر منه بين الرجال، تقولون إنه ليس على المرأة إلا أن تطيع والديها فتاةً وتمتثل لقرينها زوجةً لتسير ظافرة لا عاثرة.
كلام في كلام يا سادتي، وأنتم الوالدون والإخوة والأزواج واثقون من أن هذا كلام … ليس غير؛ لأنكم تعلمون كم من فتاة تشقى بين حيرتها الشخصية وتخبُّط عائلها، وكم من زوجة تتفطَّر بين ترددها وانحطاط زوجها، وكم من أخت يذلها ذكر أخيها الجبان، وأولئك يأمرون ويتجبرون ويتبخترون ويهددون ويتوعدون وهم لا يستحقون أكثر من الإعراض وعدم المبالاة، ولئن كَثُرَ في السجن الأبرياء المظلومون فكم من حر يملأ ظلُّه أرصفة الشوارع وهو حقيق بأن يُلقى في أعمق زوايا السجون، عفوًا أيها السادة الرجال لا أقصد التحامل، وكيف لا أنصفكم وأنا أعرف عيوب المرأة الشريرة، إذا كانت المرأة خبيثة الأخلاق عوجاء الحكم، بتراء الإدراك فهي لا تهدم البيت حجرًا حجرًا فحسب، ولكن وا أسفاه إنها تبيد قواه المعنوية وتفني فيه الصفات والملكات التي هي عز الأسرة وفخرها، هذا إذا لم تقم في وجهها إرادة قوية ويد حازمة.
إنما عنيت أن المرأة أحوج إلى الخضوع والانقياد من الرجل ويكثر عذابها في مجاهدتها ضد نفسها وذويها وضد المجتمع في آن واحد، ذلك المجتمع الذي بنى أحكامه على الظواهر جاهلًا الدخائل المؤلمة المضنية، لذلك أقول إن جمعيةً أو جامعةً تجد فيها كل امرأة وكل فتاة على اختلاف الملل والنحل تجد فيها تعزية وسلوى ومثلًا طيبًا، فهي خير مدرسة، هي في الظاهر نادٍ اجتماعي لكنها خلت من عيوب الأندية، وفيها فائدة المدرسة وليس فيها منها العنف، هناك تتعلم المرأة لاعبة على نوع ما، تتعلم فن الحديث المأنوس خاليًا من النميمة والاغتياب فتلطف عواطفها وترتقي أفكارها، هناك تتعلم احترام حرية جميع الأديان وجميع المذاهب، هناك تحتك بمن يعرفن ما لا تعرفه وتشعر بقوة الرابطة النسوية فتدرك أهمية مكانتها في العائلة والأمة والإنسانية جميعًا.
ما أحب أخبار «جامعة السيدات» البيروتية إليَّ وإلى كل من يهمه رقي المرأة! وما أشد سروري بمرأى روحها تسري في عواصم سوريا جميعًا! وما أحرى الشهباء بالأسبقية وهي التي أنجبت مَنْ نحن — طفلات الأقلام في هذه الأيام — حفيداتها بالروح، عنيت السيدة مريانا مراش ولست بقائلة إنه على كل سيدة أن تكون كاتبة شاعرة خطيبة … لئن تحتم أن يكون للنساء أقلام وأصوات منهن توصل إلى العالم أخبارهن، فحسب المرأة شرفًا أن تكون زوجة صالحة وأُمًّا صالحة، حسبها شهادة من زوجها وولدها إذا ذكرها قال: «هي سعادة حياتي»، ولكن كما أن لكل جيش راية يلتف حولها وهي شعار فخاره، كذلك يحسُنُ أن تلتف كل جماعة حول اسم عظيم.