سأكون «مخبر المحروسة» ولو مرة في حياتي، ولكن «خبري» خليقٌ بأن يوضع تحت عنوان «الحركة النسائية عندنا»؛ لأن فيه واحدًا من أهم مظاهر هذه «الحركة»، عنيت تقدير المرأة للنبوغ وجعله في المكان السامي الذي يليق به في الأفكار والقلوب، ولقد رأيت في هذا الاحتفال من دلائل النجاح والرغبة في التقدم ما يبشِّرني بأن نهضة المرأة في مصر لن تكون «قشة تشتعل لحظة ثم تنطفئ» كما ينعت كثير من الأجانب بعض المشروعات المصرية، بل أعتقد أن للحركة النسائية هنا مستقبلًا باهرًا عائدًا على هذا الوادي بالخير والهناء.
أُقِيمَت حفلة ذكرى باحثة البادية صباح (الجمعة) أمس الأول في سرادق كبير نُصِبَ في حديقة الجامعة المصرية، وقد وُضِعَ منبر الخطابة في صدر المكان وعُلِّقت وراءه صورة الفقيدة العزيزة بزيِّها العربي الجميل، وجلست إلى يمين المنبر حضرة رئيسة اللجنة حرم سعادة علي شعراوي باشا تحفُّ بها حرم المرحوم شقيقها عمر سلطان باشا وكريمتها، وحرم خلوصي بك، ومدام حبيب بك خياط، وسائر أعضاء اللجنة والخطيبات وعلى صدورهن شارة سوداء يتوسطها زر أحمر رُسِمَ عليه العلم المصري والصليب المسيحي، وجلست أمام المنبر سلفة الباحثة حرم حامد باشا الباسل، وكريمة زوجها عبد الستار بك الباسل والآنسة حنيفة حفني بك ناصف شقيقتها التي لم تَجِفَّ دموعها من أول الاجتماع إلى آخره، وقد غَصَّ السرادق الواسع بالسيدات من مسلمات وقبطيات وسوريات، ولم ألتقط إلا أسماء قليلات كانت حاملاتها قريبات منِّي، وهذه بعضها: حرم راتب باشا، حرم محمود شكري باشا وكيل وزارة الحقانية، حرم إدريس راغب باشا وكريمتها أمينة هانم، كريمة حسين الدرملي باشا، كريمة حسين واصف باشا، كريمة حسين رمزي باشا حرم أمين واصف بك، حرم حامد الشواربي بك، حرم يوسف شريف بك، حرم محمد إبراهيم بك، حرم عبد القادر الجمال بك، حرم محمد حلمي بك، حرم يوسف ثابت بك، مدام الدكتور الصروف، مدام جندي بك إبراهيم صاحب الوطن، كريمة شي بك، كريمة المرحوم عبد الرحمن بك سامي، حرم أحمد سعيد بك عمدة كفر الشيخ … إلخ، إلخ، وجمعية «المرأة الجديدة»، وجمعية «فتاة مصر الفتاة»، وعدد كبير من المعلمات والطبيبات طالبات المدرسة السَّنيِّة، وكانت البرانيط كثيرة ولكن كيف الوصول إليهن لأعرفهن؟ وقد حيَّتني فتاة واحدة ببرنيطة هي الآنسة ليندا سركيس، وقُدِّرَ أن عدد الحاضرات كان يزيد على الخمسمائة.
الخطيبات:
وفي الساعة العاشرة تمامًا بدأت الحفلة بتلاوة القرآن الكريم، وتكلمت حضرة الرئيسة حرم شعراوي باشا، والسيدة فيكتوريا أبادير، والسيدة نور حسن وكيلة ناظرة مدرسة المعلمات في طنطا، والسيدة نور الهدى ناظرة مدرسة الجيزة، والآنسة زينب محجوب بالنيابة عن نساء الفيوم، وقرأت الآنسة زينب فؤاد خطبة حرم الشيخ محمد أحمد، وتلتها حرم أحمد بك شاكر وسكرتيرة جمعية «المرأة الجديدة»، فالسيدة زينب لبيب، والسيدة سنية أحمد، والسيدة فاطمة سالم حكيمة المدرسة السنية، وألقت الآنسة زينب محجوب قصيدة أمام خليل حصاب، وكانت مسك الختام قصيدة مؤثرة للآنسة نبوية موسى المعروفة في عالم الأدب، وقد صرفت الأعوام الطوال في تهذيب المرأة وتعليمها.
كثير من هذه الأسماء مجهول لدى القارئ، ولكني أؤكد له أن جميع هؤلاء السيدات والأوانس أَجَدْنَ كل الإجادة معنًى ولفظًا وإلقاءً، وهو أمر مدهش إذا ذكرنا أن منهن من يعتلين منبر الخطابة لأول مرة، آمنت اليوم بقول القائل إن المصري خطيب من طبعه.
ولو حضر الاحتفال بعض من يستخفون بذكر المرأة لأدخلوا في حكمهم تعديلات مهمة، ومن جهة أخرى لو حضره محمد بك فريد وجدي لمَا صرخ صرخاته القوية بعدم تحرير المرأة وبمنع التعليم عنها إلا ما كان ضروريًّا لحياتها الأنثوية الصغيرة، خوفًا عليها من أن تسترجل، لو حضر لرأَى أنه بينا هي تقرض الشعر وتنمق الألفاظ وتحسن الإلقاء إذا بها امرأة صرفة؛ أي أن بيانها يظل مملوءًا قلبًا وعواطف.
نعم، كل واحدة من الخطيبات كانت تتكلم بقلبها وعواطفها، وكم من يدٍ نحيفة بين الحاضرات رفعت منديلها المخرم إلى عينيها لتمسح دموعها، لقد حضرتُ احتفالات كثيرة لحضرات الرجال، ولم يكن احتفال الأمس أقل منها نظامًا وترتيبًا، والفضل في ذلك لحضرة سكرتيرة اللجنة السيدة بلسم عبد الملك، فقد كُنَّا نحن أعضاء اللجنة كذلك بالاسم فقط، ولم نساعدها إلا بإكثار الاقتراحات عليها! وقد أُلقِيَ كل التعب والكد والجري والمراسلات على عاتقها، ولقد كللت أعمالها بالنجاح التام فاستحقت الشكر الجزيل وأرخت روح صديقتها العزيزة باحثة البادية.
أبيات خليل مطران: حكايتها:
خرجتُ قبل الاحتفال بيوم عند المساء لقضاء أمر يتعلق بالحفلة، فما خطوت في الشارع خطوات قليلات إلا وقابلني خليل بك مطران، وبعد كلمات السلام سألني عما يشغلني هذه الأيام، فأجبت أن الاجتماع الذي نعقده في الغد لتأبين الباحثة شاغلي الأكبر، ثم قلت: «ليت لنا بعض أبياتك نتلوها في الحفلة من تلك الأبيات القليلة العدد المرصوصة الألفاظ والمعاني!» ولمَّا ودعني ترك لي وعدًا بأن الأبيات تصلني في الغد، سرت مسرورة ولكني لم ألبث أن أسفت لأني أعلم أن من كان كخليل بك شاعرًا في دمه لا يُقتَرح عليه ولا تُسخَّر شاعريته حتى ولا لموضوع جليل، إنه لا يجود إلا حين يكون «هو» فيرسل زفراته نشيدًا وألفاظه حِكَمًا، الشاعر الذي يسيطر ببيانه على نفوس الآخرين فيعجنها ويُكيِّفها كما يشاء يظل عبد نفسه في حركاتها وتأثرها، وإلا فلا يكون شاعرًا عظيمًا، فكيف يُرغَم على لبس حالة نفسية لا يريدها؟
أزف وقت الاجتماع ولم تَجِئ الأبيات فقلت «حسنًا فعل!» ولكنِّي لما عدت إلى البيت دفع إليَّ البواب بالأبيات الذهبية المنشورة في محروسة اليوم فنسيت أسفي، وقلت: «لو لم يكن اقتراحي إلا سببًا لنظم هذا البيت لكفى»:
إذا ما قرأنا لها آية
حسبنا الحروف بها شادية
اقتراحات حرم شعراوي باشا:
هي أول من افتكر بتأبين الباحثة في العام الماضي، كما أنها كانت دائمًا في مقدمة السائرات بالحركة النسائية إلى الأمام، وقد افتتحت حفلة الأمس بكلمة عصماء وختمتها باقتراحات ثلاث ذكرتها الآنسة نبوية موسى:
الاقتراح الأول: تكبير صورة الباحثة بالزيت، وعلى من شاءت من السيدات الاشتراك بهذا العمل أن ترسل ما تتبرع به إلى حضرة الرئيسة، ولقد سُئِلَ عبد الستار بك الباسل في أمر هذه الصورة فلم يعترض على وضعها في الجامعة المصرية لأنه كبير العقل والقلب.
الاقتراح الثاني: أن نخابر إدارة الجامعة في وضع الصورة المذكورة في قاعة يُطلَق عليها اسم «قاعة باحثة البادية»، ومقابل ذلك تتبرع حرم سعادة شعراوي باشا للجامعة بمساعدة سنوية قدرها ١٥٠ جنيهًا.
الاقتراح الثالث: أن يُرسَل تلغراف إلى والدة الفقيدة الكريمة، ومثله إلى صاحب العزة قرينها للتعبير عن عواطف النساء المجتمعات في ذلك الاحتفال، وقد صودق على كلٍّ من هذه الاقتراحات، ونَطَقَتِ الألسن على هذه السيدة النبيلة — وأقول يا ليت أسيادنا الأغنياء يتمثلون بحرم شعراوي باشا من هذا القبيل — بالثناء، إذن لما أمست جمرات مشروعاتنا رمادًا، ولما صارت تضرب في إهمالنا وتهاوننا الأمثال!
انتهاء الحفلة:
وفي الختام نهضت إحدى صديقات الفقيدة وفاهت بكلمة شكر عن الآنسة حنيفة حفني ناصف التي لم تمكنها دموعها من الكلام، وانتهت هذه الحفلة الفخمة كما ابتدأت بآي الذكر الحكيم، لقد أشرفت الرئيسة على هذه الحفلة وهي في دور التكوين، وسنَّت خطة نظامها وقرأت كل خطبة وكل قصيدة باعتناء لتكون واثقة مما يُقال، فجاءت على أَتَمِّ ما يكون، وكأني بروح الباحثة تبسم اليوم وتشكر إذا كانت الأرواح ممن يشكرن باسمات، وقد حملت المرأة المصرية من هذا الاجتماع عاطفة جديدة بل عاطفتين جديدتين: العاطفة الأولى أنَّ لها ملاكًا يهيمن عليها من عالم الأرواح وهو باحثة البادية نابغة النساء، والعاطفة الأخرى أن لها قائدة قادرة تسير بها في طريق التقدم والنور، وهي حرم شعراوي باشا التي أرجو أن تمكنها الأحوال من نفع بنات جنسها بمثلها وذكائها فتؤدي لقومها أجلَّ الخدمات؛ لأن المرأة تحتاج جد الحاجة إلى من يقودها، ومَنْ أقدرُ على ذلك من تلك التي كتبت الحياة على جبهتها كما وضعت الطبيعة في خلقها نبالة القائد وهدوء المفكر، والآن بقي عندي سؤال تتفرع منه أسئلة؛ هل يعرف المصريون قيمة المرأة المصرية وكل ما في قلبها من كنوز الحب وفي فكرها من ذكاء واستعداد للتقدم؟ أتمنى أن تتمكن هذه من إبراز كل قواها الشريفة وأن يسمو الرجل حتى يصير أهلًا لفهمها وتقديرها كما تستحق أن تكون.