يرى القُرَّاء في غير هذا المكان وصفًا للاحتفال الذي أقامه حضرة الفاضل إلياس أفندي زيادة صاحب هذه الجريدة تكريمًا للأستاذ الجليل جبر ضومط، وقد أُلقِيَت فيه الخطب العديدة، ويسُرُّنا أن تحظى المحروسة بنشر خطاب الآنسة «مي» سيدة كاتبات ومفكرات هذا العصر، وها هو ذلك الخطاب البليغ الجليل:
أيها السادة: عندما عهد إليَّ والداي أن أقوم أمامكم بالواجب العذب، واجب الترحيب والامتنان، كنت أقرأ لماكس نورداو كتابًا ورد فيه رأي من الآراء المعروفة لهذا الكاتب، وهو قوله إنَّ الشكر الذي يزعمونه إقرارا بجميل حاضر أو سابق إنما الغرض الصميم منه اقتناص جميل جديد؛ فأغرتني هذه المغالطة الشيقة ككثير من مغالطات نورداو، وطَفِقْتُ أُقلِّبُهَا على وجوه شتى لأتبين الغاية التي أرمي إليها على غير معرفة مني، تلك الغاية المضمرة التي ما زلنا نطلبها بعد أن فاز منزلنا بتشريفكم له وضمِّكم ساعة بين جدرانه السعيدة بحضوركم.
أما الغاية الصريحة التي نسدي الشكر لأجلها فهي تفضُّلكم بتلبية الدعوة وحضور هذا الاجتماع الذي عُقِدَ باسم العلامة جبر أفندي ضومط، وإنما أردنا بهذا الاجتماع أن نزجي إلى الأستاذ تحيةً يشترك فيها أصدقاؤه الذين نعموا بعطفه فقدَّروا ما فُطِرَ عليه من الصلاح والصدق والإخلاص، تحية يشترك فيها تلاميذه العديدون المنتشرون في القطر المصري — فضلًا عن الأقطار الأخرى — اعترافًا بما لديه من يد في تخريجهم على حب اللغة العربية وإتقانها، على حب العلم وخدمته، على حب التخلُّق برضي الأخلاق، وهو لهم في ذلك خير قدوة، تحية يشترك فيها كذلك أهل العلم وحملة الأقلام الذين عرفوه في كتبه اللغوية القيمة أو فيما سمعوا عنه من حديث فضله، فجاءوا يثبتون أنه بينما تتناحر الأسر باحتكاك الحاجات وتتنابذ الأنساب بتنافر المطالب، يظلون هم أهل العلم والقلم عائلة واحدة سامية دوامًا على استعداد لتوحيد الكلمة في كل ما هو تحبيذ للفضل، تقدير للكفاءة وشحذ للعزائم، وفي كل ما من شأنه أن يبعث في النفوس نورًا وحياة ونبلًا.
بيد أنَّ لدي أمرًا آخر أود أن أُفضِيَ به وقد اكتشفته عند الأستاذ ضومط خلال الصيف الماضي، كان ذلك على قمة من قمم لبنان الشمَّاء المشرفة على استدارة الشواهق المتناسقة، على الآكام والهضاب المترامية نحو الساحل، على البحر البعيد الفسيح وقد امتزج أفقه الأقصى بسُحُبِ الغروب الملتهبة، كنا هناك تحت خيمة النزل في حلقة من الزائرين، وأمام مشهد المساء البنفسجي، أمام مشهد الشفق الرائع، تعلمون أيها السادة ما يخالج النفس من توق عميق وصبابة إلى أزمنة غير معروفة، إلى أمكنة غير محدودة، إلى مدركات غير مدركة، يحاول المرء أن يفسرها بحاجاته الوجيعة، ويحاول الإحاطة بها بممكناته الإنسانية الميسورة، وإنما هو يحاول ذلك ليتسنى له أن يرجو، يحاول ذلك ليتسنى له أن يستخدم في سبيل أمر ما، ما أوتي من ذكاء ونشاط وقوة، عندئذٍ وتحت هذا التأثير دوَّت نفسي بأسئلة تضطرب لها اليوم الشبيبة الشرقية اليقظى، وقد ينطوي كثير منها تحت هذا السؤال الواحد: أين وطني؟
أين وطني يا من تقدمتموني في حياة الأمة فأناخ عليكم الدهر بكلكله فما تركتم لي غير ميراث موزع الأجزاء مُقطَّع الأوصال؟ أين وطني أيها المتقاذفون بالحجج والأدلة، المتمادون في التأويل والتحريف حتى نسيتم في غضبكم الغرض الذي لأجله تغضبون؟ أين وطني أيها الجيل السائر أمامي، الطالب مني الخضوع والامتثال، ولكنك لا تستطيع أن تنتحي لي في الحياة سبيلًا، وها أنا بين ترددك وترددي في عناء وشقاء؟ أين وطني أيتها الأرض التي هي وطني، أين وطني؟
وهنا لفتني عن سؤالي المتكرر مناقشةٌ دارت حولي بين اثنين من الزائرين، مناقشة هادئة حصيفة، ولكنها جادَّة جليلة الشأن، موضوعها يقظة الشرق وكيفية تنظيم الرابطة المعنوية بين أهل الشرق، فأحد الرجلين يقول بالعنصرية، والآخر يدعو إلى القومية العربية، المُنَاظر الواحد يقول: إنما أريد للشرق مناعة وكرامة، وإن لم يكن لذلك من سبيل سوى العنصرية — أي تغلب عنصر على عنصر أو عناصر — فحي على العنصرية، وإني لملمٌّ بمواهب أبناء الشرق وبعظمة كرمهم الموروث لأكون واثقًا بإنصافهم في إعطاء كل ذي حق حقه، فيعترض المُنَاظر الآخر قائلًا: كلا! لقد أصبح الشرق أشرف من أن يتسول أهله الإنصاف والحرية. وإذا شئنا أن نكون من أبناء الحياة فعلينا بالقومية بما تنطوي عليه من عوامل اللغة والاقتصاد والعلم والعطف والتفاهم … إلخ، فنتبادل ضمنها الحقوق والواجبات والحرية والمساواة، لا تبرعًا ولا تسولًا، بل الحق الطبيعي المعطى لكل ذي مقدرة، فبالقومية وحدها نقيم صرح الشرق الجديد!
قد يُظَنُّ لأول وهلة أن الداعي إلى القومية أو التطور — كما نقول بلغة هذا العصر — هو من الأقلية في بلادنا، بينما المدافع عن العنصرية أو المحافظ — كما نقول بلغة هذا العصر أيضًا — هو من الأكثرية، ولكن الواقع هو أن ذلك «المتطور» هو رجل من أكبر البيوتات الإسلامية في سوريا، تلك البيوتات التي كانت الزعامة دوامًا في يدها، أما المدافع عن العنصرية أو «المحافظ» فكان هذا الأستاذ ضومط المسيحي الذي ترون.
لذلك أُضِيفُ إلى تلك التحية المشتركة تحيةً أخرى: إني أحيي فيه الرجل الشرقي الصميم الذي يحب بلاده لا لأجل ما يجني منها ويبتغي، بل يحبها لأنها هي هي، شأن المحب العنيد الذي يستوي عنده الغُنْم والتضحية والعذاب والنعيم.
قد تقولون — أيها السادة — إنَّ ماكس نورداو صدق هذه المرة لو أنا سألتكم أن تزيدوا اهتمامًا بموضوع القومية الشرقية، وإني لأرضى، أرضى أن يقال إن وراء شُكرٍ أُسدِيهِ إنما أدعو إلى الجمع بين الرأيين اللذين لا غنى لنا عنهما: رأي المحافظة على كل ما عندنا من موروث نبيل، ورأي احتضان كل مكتسب نافع، وتلك السنة الخليقة في جميع الموجودات إذ لا تتم للكون غايته من جميع أجزائه إلا بتتابع النبذ والمحافظة والتخلي والاكتساب، إني لأغتبط أن يترك فيكم هذا الاجتماع ولو بعض الرغبة في أن يتناول كلٌّ منكم هذا الموضوع بعطفه، ويمحصه بمقدرته، وينشره بنفوذه فيكون عاملًا في سبيل غاية عظيمة، وإنما السعي لغاية عظيمة غايةٌ في ذاته ورفعة ونوال.
أما أنت أيها الأستاذ المسافر، فغدًا عندما تجتاز الصحراء تمر بالعريش الذي يرونه الحد الفاصل بين مصر وسوريا فتراه أنت الشرقي الصميم يدًا خضراء، يد السلام والرجاء الجامعة بين القطرين رغم أهوال المفاوز وقحط الصحراء، وحسبك يا سيدي فخرًا وفضلًا أن تواصل ما قمت به إلى الآن، وهو نشر اللغة الجميلة لغة القرآن، وتأييد العلم والعرفان، والدعوة إلى الثقة والتسامح ومحبة الأوطان.