كنا نحن أيضًا تلاميذ وطلبة قبل أن نكبر هكذا، أو على الأصح — وفيما يتعلق بي — قبل أن تعلو سني، فما أعرفني كبرت شيئًا يُذكر مذ عرفت نفسي. والناس لا يولدون بأسنانهم ولحاهم، والله ألطف بعباده من أن يحرمهم نعمة الطفولة والصِّبَا، والشيطان ألأم من أن يدعهم يَسْلُون فَقْدَ الشباب، وفَقْدُهُ — كما يقول ابن الرومي: «الموتُ يوجَد طعمُه صراحًا». ولكني لست في مقام الكلام في لؤم الشيطان وسوء صنعه؛ فإن لهذا وقتًا آخر لا أستعجله، وإنما أريد أن أقول إن أستاذنا في اللغة العربية — أو على الأصح في النحو فما كنا نتعلم لغة — كان رجلًا عتيقًا جدًّا، يبدو لك وجهه الكالح كأنه المدينة المتهدِّمة، فيها العالي والواطي، والداخل والخارج، والحفر والأكوام، وكان بعد خمس دقائق من ابتداء الدرس يستطرد إلى الكلام في السياسة، وكانت الحجرة مجاورة لحجرة الناظر الإنجليزي، فكان يعمد إلى النوافذ فيغلقها، وإلى الباب فيوصده، ثم يذهب يحدثنا في صوت خفيض كأنما يُسِرُّ إلينا كلامًا مخُوفَ العاقبة — عليه على الأقل — وينشئ يصف لنا عهد إسماعيل وظلم حكومته الرعية، ويفيض في عدل الإنجليز وما تنعم به البلاد من الأمن والحرية في ظلهم، فنجادله بالتي هي أحسن وبالتي هي أقبح أيضًا، فقد كُنَّا وطنيين على الرغم منه، وهو راسخ الحلم كالطود لا يغضب ولا يضجر ولا يزيد على ابتسامة سخر من جهلنا وطيش صبانا.
هذا الأستاذ الزاري على إسماعيل المشيد بالإنجليز، هو المسئول عن «جمعية» أقمناها وأسميناها (جمعية الشبيبة الإسلامية) ونافسنا بها جمعية أخرى وطيدة أنشأها صاحب المدرسة التحضيرية رحمه الله وعفا عنه، واتخذها سلمًا إلى الاتصال بإيطاليا، ولا شأن لي بها فما كانت من عمل الطلبة. وكنا حفنة قليلة تمتاز بالفقر وقلة الحيلة؛ فعقدناها أول ما انعقدت في بيت كنت أسكنه في (الحارة اللعينة) التي عرفها القراء من وصفي لها، وقضينا أسبوعًا نصنع المنبر بأيدينا من (صفائح الغاز) ثم كسوناه قطعة من قماش أخضر لا أذكر الآن من أين جئنا بها، فلعل أحدنا سرقها، ووضعنا المنبر في المنظرة، وكانت حجرة واسعة، أما الكراسي فاستعرتها من فرَّاش قريب في الحارة لم يأتمنِّي عليها إلا برهن، فرهنت عنده الكنبات الثلاث التي كانت في المنظرة. وكنا نحن المؤسسين ثلاثة: أحدنا وخيرنا مات فرحمة الله عليه، وثانينا لا أدري أين هو الآن فما تقع عيني عليه ولا أسمع به، وكنت أدعوه «عبد العفريت أفندي» لأنه كان يحلق لحيته وشاربيه وحاجبيه بالموسى ويقص أهداب عينيه، فيبدو كالعفريت تمامًا، والثالث يعرفه القراء فلا حاجة إلى تعريفهم به.
وأعد أولنا خطبة الافتتاح ونظمت أنا قصيدة قلتها أحق من قصيدة السيد البكري بأن تسمى ذات القوافي، وتولى «عبد العفريت أفندي» سكرتارية الجمعية والجلسات، ودعونا أناسًا كثيرين حضر قليلون منهم، وأذكر من بينهم الأستاذ لطفي جمعة، وكان في ذلك الوقت من أبرز الشبان وأفصحهم وأخطبهم، وكان قد اتصل في ذلك الوقت بالمرحوم مصطفى كامل باشا. وحسبي هذا عن جلسة الافتتاح فقد نزلتُ عن المنبر غارقًا في بحر من العرق المتصبِّب، وما زلت إلى اليوم أعجب لنفسي من أين جاءتني تلك الجرأة، حتى وقفت ألقي قصيدة ليست ذات قوافٍ فقط، بل ذات بحور وبحيرات ومستنقعات أيضًا.
ما علينا، كان لا بد بعد هذه الجلسة أن نتخير للجمعية مكانًا آخر؛ فإن «الحارة» وحدها كفيلة بالقضاء المبرم عليها، ثم إني لا أستطيع أن أظل كل أسبوع أرهن (كنبات) البيت لأستعير الكراسي من الفراش؛ فاهتدى «عبد العفريت أفندي» إلى ناظر مدرسة أهلية في حارة الروم، وأقنعه بالسماح بعقد الجمعية في فناء المدرسة، وزيَّن له أن ينافس في هذا الطريق صاحب المدرسة التحضيرية، وبقي مشكل المال للإنفاق على الجمعية؛ أي لاستئجار الكراسي والمصابيح وشراء الغاز. وقد تبرع الناظر في أول جلسة بهذه النفقات، وشرعنا نضم إلى الجمعية أعضاء ونجمع منهم ومن أنفسنا اشتراكات، وكان مقدارها زهيدًا، أعني قرشين في الشهر وخمسة من المطيق؛ فقد كنا — كما أسلفت — فقراء، وكان الواحد مِنَّا لا يأخذ من أهله لنفقته اليومية غير قرش أو نصف قرش.
ونجحت الجمعية لأن دعوتها كانت إسلامية، وكنا نخفي الدعوة الوطنية تحت هذا الستار؛ لأنا كنا تلاميذ لا يجوز لنا أن نشتغل بالسياسة، واكتظت جلساتها، وصار يخطب فيها شيوخ مشهورون في ذلك العهد أذكر من بينهم المرحوم (الشيخ زكي الدين سند) وكان أكثر الحاضرين من طلبة الأزهر، وكان الخطباء منهم يتعاقبون على المنابر، ثم يبرز بعضهم لبعض في فناء المدرسة ويتضاربون «بالسلاح الأحمر» كما كُنَّا نسمي «المراكيب» وأشهر هؤلاء الأبطال اثنان لا أسميهما، أحدهما الآن قاضٍ شرعي ممتاز والآخر كاتب مشهور.
وكنا جميعًا تلاميذَ لمصطفى كامل نشترى صحيفة اللواء بالقرش الواحد الذي معنا ونقرؤها، فتجيب نفوسنا دعوته، فلما أُرْغِمْنَا على فض الجمعية — بأمر صدر إلينا من الناظر الإنجليزي — سُدَّ المتنفَّس الوحيد الذي كان لنا فاشتعلت نفوسنا، ولم نكد نفرغ من التعليم الثانوي حتى كان طلبة آخرون قد أسسوا «نادي المدارس العليا» والتحق الكثيرون منَّا به، وانضموا إليه، وكان في هذا النادي جل المتعلمين والشبان، وهؤلاء وأولئك جميعًا من الوطنيين فكانت الحكومة تنظر إليه بعين السخط، وكان الخديوي في أول الأمر يظهر الرضى عنه لظنه أن يتخذ منه آلة وأداة لأهوائه، ولكن روح النادي كانت أظهر من أن يستطيع أحد كائنًا من كان تسخيرها لمآربه، وكان طلبة المدارس العليا مسموحًا لهم بشهود التمثيل في الأوبرا مجانًا من (أعلى التياترو) فاتفق مرة أن حضر الخديوي التمثيل، فخف إلى (أعلى التياترو) أعضاء النادي من الطلبة، وكانوا جيشًا جرارًا، وما كاد الخديوي يظهر في مقصورته حتى سَكَّ مسمعيه مثلُ الرعد داويًا مجلجلًا بصيحات المطالبة بالدستور؛ فغضب غضبًا شديدًا، وكان أشد ما يهيجه أن يطالَب بالدستور، ولم يكن هو يقاوم الإنجليز إلا ليستأثر هو بالحكم ويستبد، وعلى أثر ذلك حُرِمَ الطلبة مزيَّةَ السماح لهم بحضور الأوبرا مجانًا، وتنكر الخديوي بعد ذلك لنادي المدارس العليا.
كانت روح الطلبة في أيامنا — كما ترى — مصرية وطنية، وكانت على إسلاميتها خالية من التعصب بريئة من النعرة المرذولة، وكانت مصريتها صافية نقية لا تعرف إلا الوطن، ولا تكدرها الأهواء، ولا يرنِّقها التشيع، ولم تكن الأحوال يومئذٍ تساعد على الالتفات إلى الشرق؛ لأن الشرق العربي كان أكثره داخلًا في الإمبراطورية العثمانية، وكانت مصر على تبعيتها اسمًا لتركيا، في شاغل من كرب الاحتلال، وخير ما كانت تمتاز به روح الطلبة البساطة والإيمان، ولا نعني بالإيمان التدين، وإنما نعني الإيمان بالواجب في الحياة وبحق البلاد، ولعل البساطة من ثمار ذلك.
أما الآن فقد تغيرت الدنيا، وتعددت المساعي، واتسع أفق التفكير، وامتد إلى ما وراء مصر وشمل الشرق كله لا العربي وحده، وليس لي أن أقول إن هذا خير أو إنه شر، فما أدري، فإن لكل جيل ظروفه، ولكُلِّ ناس أفق حياتهم، ولكني لو رددت طالبًا لما عدوت ما كنت فيه أيام الدرس والتحصيل، والذي كُنَّا فيه في أيامنا تلك هو الحب لبلادنا والاستعداد للحياة، ولم نكن كطلبة هذه الأيام علمًا بالدنيا، وتجربة للحياة، ومعاناة لشتى أحوالها وصروفها، ولكنا كُنَّا طلبة نتوسع في التحصيل، ونقطع من قوت يومنا لنُقِيتَ عقولنا، ونجيع بطوننا لنشبع نفوسنا، ونكد في أجسامنا لنريح أرواحنا. وكانت أعمالنا — حين نعمل شيئًا — تمتاز بطابع الجِدِّ الصارم، وقد يضحك منها هذا الجيل، ولكنها لم تكن تدعو إلى الضحك في أيامنا؛ لأن روح الجِدِّ كانت تنفي إمكان السخر، ولم يكن الإنجليز يضحكون منا، ولا الخديوي ولا حكومته، وكان الناس يتلقون أعمال جيلنا بنفس الروح التي تصدر عنها هذه الأعمال، ويخيل إليَّ الآن أن جيلنا كان جيل «أطفال كبار»، أطفال إذا اعتبرت صدق السريرة والإخلاص وبساطة النفس، ولكنهم كانوا كبارًا إذا اعتبرت روح الجد، ولعل هذا الجد من تلك البساطة، وأين نحن من جيل اليوم؟ إنه جيل — كما يقول المثل العامي — يستطيع أن يمضي بنا إلى البحر ويردنا عنه ظِماء، أعني أنه أعرف بما في الدنيا من عُرْفٍ ونُكْرٍ وخير وشر، أما نحن فما عرفنا الحياة أول ما عرفناها إلا من الكتب، أعني أننا عرفنا المُثُلَ العليا قبل أن نعرف الحياة، وتعلقنا بصور الكمال قبل أن نكابد الليل، ولشد ما صدمتنا الحياة بعد ذلك وخيَّبت آمالنا، ورجَّت نفوسنا، ولكن بقية من الثقة بهذه المثل العليا بقيت في قرارة نفوسنا فما زلنا بلهاء كما ترى.
وجيل الطلبة الحاضر على خلاف جيلنا فيما يبدو لي، أعني أنه بدأ حيث انتهينا نحن؛ فعسى أن ينتهي حيث بدأنا فيفوز بالحسنيين جميعًا.