ليس هذا مقالًا عن حافظ الشاعر؛ فإن لهذا «كتابًا» سيصدر في أوانه ويشترك في وضعه الأدباء كلهم أو جلهم، ولكنَّمَا هذا مقال عن حافظ «الرجل» أو هو طائفة من الذكريات تخطر الآن بالبال.
كانت قهوتا «جراسمو» و«متاتيا» مثابة الأدباء ومنتداهم، وكان المرء لا يعدم منهم واحدًا في أية ساعة من ساعات النهار أو الليل، فهذا يدخن النرجيلة في صمت ولعله يستعين بها على النظم أو التفكير، وذاك يلعب الشطرنج ويزجي به الفراغ ويقتل الوقت، وثالث في حفل من الأدباء أو الشعراء أو الأصدقاء، يتطارحون الشعر أو يتناشدونه أو يتبادلون النكات أو يفعلون غير ذلك مما يجري في المجالس العامة بين النظراء أو الإخوان. وقد عرفت حافظًا أول ما عرفته في قهوة جراسمو، ولا أذكر كيف كان ذلك، ولا من الذي قدَّمني إليه وعرَّفني به، ولكني أذكر أني رأيته مرة هناك وكانت أمامه نرجيلة، ولم أره قط يلعب الطاولة أو الشطرنج أو غيرهما، فلعله كان لا يجيد ذلك أو لا يرتاح إليه أو لا يصبر عليه، وكان في حفل واسع الحلقة والكل منصت إليه، فقد كان بارع الحديث سري الفكاهة، وكان يستولي على المجلس ولا يكاد يدع لغيره كلامًا، وإذا بالمرحوم إمام العبد — أحد شعراء ذلك العهد وزجاليه — يُقبل عليه إقبالًا فيه من اللهفة أكثر ممَّا فيه من الشوق، ثم انحنى على حافظ وأَسَرَّ إليه كلامًا فقام هذا إليه — وعيني تراعيهما — ومال به عن الجمع، ثم دس يده في جيبه وأخرج حافظة كبيرة دفعها إليه في صمت وتركه وعاد إلى مجلسه.
لم يمضِ إمام بالحافظة، بل فتحها ووقف هنيهة يرنو إلى وهج الجنيهات الذهبية المرشوقة في عيونها، ثم راح يأخذ جنيهًا فآخر ويتردد ويتلفت ثم يرتد إلى الحافظة فيخرج بضعة جنيهات أخرى حتى اكتفى، فطواها ورجع إلى حافظ فألقى إليه حافظته ومضى عنه. أما حافظ فتركها لحظة على ساقه كأنه لا يحسها ثم أعادها إلى جيبه من غير أن ينظر إليها أو يفتحها ليرى كم بقي فيها، إذا كان قد بقي شيء.
ولم يكن حافظ على هذا غنيًّا، ولا متصل حبل الرزق، فما كان له عمل إلا قرض الشعر، ولم يكن يتكسب به، وإنما كان يمدح من يمدح لأنهم أصدقاؤه، ولأنه كان يرى من حقهم عليه ومن واجبه لهم أن يثني عليهم؛ ولهذا ترى المدح في شعره قليلًا، وقلما يتجاوز البيت أو البيتين يَرِدَان في القصيدة لسبب معروف، وعلة مفهومة، ومناسبة ظاهرة لا تكلُّف فيها ولا استكراه للشعر عليها. وكان رثاؤه وفاءً أو إكبارًا أو قضاء لحق يعتقده عليه، ومن هنا كان الرثاء في شعره من خير ما نظم، وفيما عدا ذلك كان شعره في الاجتماع والأحوال السياسية، ومن ذلك لم يكن شعره الشعر الذي يمكن التكسُّب به، وقد صار قدوة لمن نشأوا على عهده من شعراء عصره فكانوا يقلدونه ويحاكونه ويجرون على أسلوبه. ولكن هيهات، فما كان يلحقه أحد في هذا الباب، ومع أنه كان منقطع الرزق عف النفس يعيش من دخل كتبه ودواوينه على الأكثر، فقد كان جوادًا لا يضن بما معه كله. وقد حدثني هو قُبَيْلَ وفاته وبُعَيْدَ إحالته إلى المعاش، أنه كان في بيته فدخل عليه الخادم بظرف فَضَّه فإذا فيه قصيدة جيدة يستوكف بها ناظمها بِرَّه، ويستمطر جُوده، قال: فأُعجبت بالقصيدة واستحييت أن أرد قائلها خائبًا، وأكبرته أن أدعوه وأُخجِله بالعطاء، فعددت الأبيات فوجدتها عشرًا، فوضعت له عشرة جنيهات في ظرف بعثت به إليه.
قال: ومضى نحو عام فزرت المرحوم إسماعيل صبري باشا الشاعر فتذاكرنا الشعر، وجر ذلك إلى ذكر أجواد الأمراء من العرب وصلاتهم للشعراء، فتذكرت القصيدة وصِلَتِي لصاحبها وأسفي على أني لم أعرف قائلها إلى الآن، فضحك إسماعيل صبري وقال: أنا أعرفك به. قلت: هل تعرفه؟ قال: نعم، واسمع أبياته فإني أحفظها. ثم أنشد فيها فعجبت، وعرفت بعد ذلك أن إسماعيل صبري أراد أن يركبني بالدعابة، فكتب الأبيات وبعث بها رسولًا إليَّ عاد إليه بالجنيهات العشرة! وروى لي صديق لي ولحافظ أنه طلب منه مرة جنيهًا، ولم يكن الصديق فقيرًا، ولا كانت به حاجة إلى الجنيه، وإنما أراد أن يمازحه ويثبت لإخوانه أن حافظًا لا يذكر أبدًا دَيْنًا له، ثم مضى يوم فطلب منه نصف جنيه، وسأله: كم لك الآن عندي؟ فقال حافظ بلا تردد: «خمسون قرشًا فلا تنسها» فضحك الحاضرون، وكانوا يذكرون الجنيه السابق!
ولعل حافظًا كان الشاعر الوحيد من شعراء عصره الذي لم يحقد على المذهب الجديد في الأدب، ولم يحاول قط أن يتناوله بالزراية أو التنقص أو يكيد أو يدس له، بل لقد كان يعالج أن يفهم هذا المذهب ليُنْصِفه، وكان إذا شرحت له نظرية يعترف بصدقها وسدادها ويراها غير منافية للصدق الذي في سريرته، والإخلاص الذي بني عليه طبعه، فيقول: أنا إذن من المذهب الجديد.
وأذكر أني مرة زرته في دار الكتب، وكنت مشغولًا بابن الرومي فرأى قصيدة طويلة له في وليد؛ فعجب حافظ رحمه الله لقدرة ابن الرومي على نظم ثلاثمائة بيت في وليد ليس في حياته شيء لأنها لم تبدأ إلا منذ أيام، وقال إنه هو لا يستطيع أن يقول أكثر من ثلاثين أو أربعين بيتًا في رجل تام الحياة مكتمل الرجولة. فقلت له إن هذا هو الواجب أن يكون؛ لأن الرجل الكبير الذي تمت حياته واكتملت رجولته يكون قد أصبح محدودًا بحدود هذه الحياة وبسيرته فيها؛ فليس يسع الشاعر أن يخرج عن هذه الحدود التي رسمتها سيرة الرجل وحوادث حياته، وإذا تجاوزها بجهد فلن يكون ذلك إلى مدى بعيد، ولكن الطفل الوليد كُلُّهُ أمل منبسط الرقعة مترامي الآفاق لا يحد الكلام فيه شيء، فمجال الخيال رحيب لا يعترضه ولا يأخذ عليه متوجهه شيء، وفي وسع الشاعر أن يركض في كل ناحية بلا عناء أو نَصَب، وفي مقدوره أن يتمثل حياة الطفل كما ينبغي أن يكون؛ أي على هوى الشاعر، وليست ثلاثمائة بيت بالكثيرة لولا القافية. فاقتنع حافظ ولم يكابر.
ولم يكن يمدح أحدًا في وجهه أو في غيبته نفاقًا أو إشفاقًا؛ فقد كان جريئًا، مطمئنًّا إلى طريقته في الشعر، راضيًا عنها، غير راغب في التحول إلى سواها ولا مستعد لذلك، ولم يكن فيما يأخذه على إخوانه أو الشعراء غيره شيء من المرارة أو ما يشعرك بأن أضالعه تُطوى على حقد أو كره أو حسد أو غير ذلك؛ فقد كانت نفسه كَمَاء النبع الصافي الذي لم يمتزج بعدُ بتراب الأرض وأقذارها، وكانت فيه على إسرافه وجوده قناعة وصبر عجيب، وحياء شديد من الشكوى أو التململ، وكانت رجولته تستنكف من ذلك وتخشى سوء تأويله.
وقد مات وهو أشد ما يكون حماسة كما كان في عنفوان شبابه، فلم تخمد جذوة وطنيته ولم تبترد حرارة نفسه، ولم تنطفئ شعلة روحه ولم تقبُر لهيبَها لا السن ولا الأمراض ولا الحادثات، نعم قَلَّ شعره بعد أن التحق بدار الكتب، ولكن قدرته على الإجادة حين يقوله لم تضعف، ولقد سمعت منه ميميته التي نظمها قبل وفاته، ولست أعرف أن له ما هو أجود منها وأرصن.
ولكن لا أريد الآن أن أتكلم عن شعره، كما أسلفت، وإنما أردت أن أثني على خلائقه ورجولته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.