كانت النية أن أكتب كلامًا غير هذا، ولكن الإنسان يريد الشيء، والله يريد خلافه، ولا حيلة للمخلوق فيما شاء ربه، على أني غير آسف فقد أتيحت لي اليوم فرصة للتكفير عن بعض ما اجترحت من الآثام وارتكبت من الذنوب، وإني لمدين بهذا لمن لا أعرف بل لمن تحدثني نفسي أنه شخص لا وجود له، أو أنه على الأقل من غير بني الإنسان، فإن للسانه سلاطة منكرة، ولقد لعن آبائي وأجدادي لعنًا أظنه أزعجهم في قبورهم، فسددت أذني «بأناملي العشر»، ولكن الشلال لا تخفت رعدة الأصابع في المسامع، والمصيبة أن الشلال باطني، أعني أن مصدره الضمير الثقيل الذي أعياني إخراسه، وبح صوتي من الدعاء عليه أن الله يقطع لسانه.
وقد كان ضميري — اليوم — مشغولًا بأمور، أعني بجرائم، تافهة هينة، وكنت وأنا في طريقي إلى البلاغ أقول له مخادعًا: «اسمع يا صاحبي، يجب أن تعرف أن للكلام وقتًا، وأن للصمت وقتًا، وهذا ولا شك وقت الصمت التام، فلست أستطيع أن أسوق هذه السيارة التي لا تريد أن تسير، وأن أتقي قتل الأطفال والنساء والشيوخ، إذا ظللت تشغلني بهذا الجدل العقيم، فاعفني بالله من صوتك الكريه، حتى نبلغ «البلاغ» وهناك تستطيع أن تصيح بأعلى أصواتك المنكرة من فوق السطح».
وكانت هذه خدعة فإن في مكتبي قطن أعددته لأحشو به أذني كلما آنست من هذا الضمير المتعب حركة، ولم يكن يخفى عليَّ أنه ذكي لبيب ككل ضمير مع الأسف، ولم أكن أطمع أن تجوز عليه هذه الحيلة، ولكني رجوت أن يفتنه منظره وهو واقف فوق سطح البلاغ يصيح مشهرًا بي مشنعًا عليَّ، عائبًا كل ما فعلت، بل حتى ما أفكر فيه وأحلم به، وقد كان يخيل إليّ أنه كان يدرك ما في حملته عليَّ في الطريق من الإسراف والشطط، ويعلم أنه لم يكن جادًا، وإنما كان يريد أن يزجي الفراغ، ويقتل الوقت، وأنه يؤنب ويوبخ لأن هذا عمله في الحياة، لا لأني فعلت شيئًا يستوجب الملامة، ومهما يكن من ذاك فقد سكت وأراحني دقائق حتى صرت إلى مكتبي؛ فألفيت عليه كتابًا جلدته زرقاء واسمه «رسائل النقد» بقلم «الدكتور رمزي مفتاح»؛ فتناولته مستغربًا، فما سمعت اسمه، فتنحنح ضميري؛ فمددت يدي إلى الدرج أريد أن أفتحه لآخذ منه قطنًا، ولكنه — أعني ضميري — ابتدرني بقوله: «لو سددتهما بالأسمنت المسلح لما أجدى عليك».
فتراخت يدي وقلت: «إيه؟»
قال: «نعم. لا فائدة يا صاحبي. كان الأمر محصورًا بينك وبيني، ومقصورًا علينا، أما الآن فهو في الكتب والناس جميعًا يقرأونه».
فصحت به: «أي أمر؟ وأي كتب؟»
قال وعلى وجهه المسيخ ابتسامة بغيضة: «هذا الكتاب الذي بيدك».
قلت مستغربًا: «ماله؟»
قال باختصار: «ستقرأ فيه أنك مجرم».
فصحت مرة أخرى: «إيه؟»
قال شارحًا بتؤدة تطير العقل: «ميم، مجرم، جيم، جدًّا، راء، رذل، ميم، منحط». فهويت إلى الكرسي وسقط الكتاب من يدي فضحك الخنزير وقال: «هاها! هل تسمح لي أن أرش على وجهك ماء؟»
فغضبت وانتفضت واقفًا وصحت بعنف: «اخرس».
فلم ينهزم — وهل ينهزم قط؟ — وقال: «ماذا قلت؟ فإني لم أسمع!»
قلت: «لا أسمح لك بهذا التهكم».
فانحنى ساخرًا وقال: «عفوك إذا كنت قد أسأت الأدب».
فقلت أحدث نفسي: «شيء لا يطاق! سكتنا له دخل بحماره».
وجلست، وكانت يدي تقلب ورق الكتاب وأنا ذاهل؛ فقال: «هممم!»
فقلت مثله: «هممم!»
فقال: «لا تجعل بالك إليَّ، افتح الكتاب واقرأه ودعك مني».
فقلت لنفسي لابد أن في الأمر سرًّا، وأقبلت على الكتاب أتصفحه، فما راعني إلا أن مؤلفه هذا الدكتور رمزي مفتاح يتهمني بالعقوق والغدر والخيانة وو… إلى آخر ما يمكن أن يخطر بالبال من أمثال هذه المعاني، وهو يشرك معي في هذه التهم الشنيعة صديقي الأستاذ العقاد بلا سبب، ثم يفرد له تسعة أعشار الكتاب، وللعقاد لسان عال وبيان قوي، وإن كنت أحسبه لن يعنى بهذا الطعن السخيف.
وسبب هذه الحملة أني كنت نقدت الأستاذ عبد الرحمن شكري الشاعر في كتاب «الديوان» الذي أصدرناه — العقاد وأنا — في سنة ١٩٢٢، وأن ما بيني وبين شكري فسد بعد ذلك وقبله.
وأحب أن أنصف شكري وأبسط للقراء قصتي معه، لا لأن الدكتور رمزي مفتاح رماني بالغدر والخيانة، بل لأن كتابه مناسبة صالحة.
كانت علاقتي بشكري كأوثق ما يمكن أن تكون علاقة صديقين، ثم حدث في سنة ١٩١٥ أن كتب إليَّ من الإسكندرية يبلغني أنه وضع كتابًا عن أدباء هذا العصر، وأن فيه فصلًا عني يجب أن يقرأه عليَّ قبل طبعه، وأنه قادم لهذا.
ولما صرنا في بيتي أدهشني بقوله أنه يريد أن يسترد مني رسائل كان قد كتبها إليَّ؟ فذهلت وقلت له دونك الدرج فخذ منه رسائلك جميعًا إذا شئت، ولم أر أن أسأله بعد هذا عن كتابه الذي زعم أنه ألفه عن أدباء العصر، ولا عن الفصل الذي قال إنه كتبه عني، فقد حز هذا الطلب في نفسي، ووقع عندي أسوأ وقع وآلمه. وكان مما قاله لي أيضًا في ذلك اليوم أن في الجزء الأول من ديواني أبياتًا يسهل أن أُرمى فيها بالسرقة، فقلت له:
إذا كنت قد وقعت على هذه إلأبيات فما عليك إلا أن تدلني عليها، وإنك لتعلم أني لا أتعمد ذلك، وإني لمستعد أن أراجعها معك، فإذا اقتنعت، فلست أتردد في كتابة مقال أنشره في «الأهرام» وأنص فيه على هذه الأبيات مهما بلغت عدتها، وأعلن نزولي عنها وردها إلى من يعدون أولى بمعانيها لأنهم أسبق.
فنصح لي ألا أفعل، وقال إن الناس لا يقدرون هذه الصراحة، ومادمت تنوي أن تظهر الجزء الثاني من ديوانك قريبًا يكفي أن تشير في مقدمته إلى هذه الأبيات، وافترقنا على هذا؛ فعاد هو إلى الإسكندرية، وشرعت أنا أعد الجزء الثاني من ديواني للطبع، وإذا به يصدر الجزء الخامس من ديوانه هو، ويحمل عليَّ في مقدمته حملة يتهمني فيها بالسرقة!
ولم يثقل على نفسي اتهامه لي بالسرقة، لأني أعرف من نفسي أني لم أتعمد سطوًا ولم أُغر على شاعر، وإنما علقت المعاني بخاطري أثناء المطالعة، وجرى بها القلم وأنا غافل، لأني ضعيف الذاكرة سريع النسيان، وإنما الذي أثارني أولًا أنه لم يأتمني على بعض رسائله، وشك في مروءتي، وخاف أن أستخدمها ضده إذا بقيت عندي، وثانيًا، أنه ضحك عليَّ، ومنعني أن أميط عن شعري لوثة السرقة، ليتسنى له هو أن يرميني بها، وليكون وقع التهمة أعمق، وأثرها أبلغ إذ كانت ممن يعرف الناس جميعًا أنه صديق لي.
ولا أكتم القراء أني انتقمت لنفسي شر انتقام، وأنى أسأت إلى شكري أعظم إساءة، وما كنت أستطيع أن أفعل يومئذ غير ذلك، لأني لا أؤمن بإدارة الخد الأيسر لمن ضربني على خدي الأيمن، وبعد أن شفيت نفسي بما وجدت استرحت، ونسيت الحكاية.
ومضت سنون بعد ذلك فنشر شكري طعنًا شخصيًّا عليَّ في جريدة عكاظ، وكان يجيء من الإسكندرية ليملي على صاحبها رحمة الله هذا الطعن، ويدفع إليه [نفقات] الجريدة ويرجع، فقلت لنفسي: إيه! طيب! وكتبت ما كتبت عنه في «الديوان» واسترحت مرة أخرى.
ومضت سنوات أخرى، وجاء شهر مارس سنة ١٩٣٠ فطلبت مني إحدى الجمعيات أن ألقي عندها محاضرة في «التجديد في الأدب العربي» فجعلت موضوعها «عبد الرحمن شكري» وقد نشرت هذه المحاضرة في الخامس من أبريل سنة ١٩٣٠ في السياسة الأسبوعية، وأنا أستأذن القراء في نقل فقرات منها:
«وقل من يذكر الآن شكري حين يذكر الأدب ويعد الأدباء، ولكنه على هذا رجل لا تخالجني ذرة من الشك في أن الزمن لابد منصفه وإن كان عصره قد أخمله، ولقد غبر زمن كان فيه شكري هو محور النزاع بين القديم والجديد، ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل؛ فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه في سنة ١٩٠٧، إذا كانت الذاكرة لم تخني، وكنا يومئذ طالبين في مدرسة المعلمين العليا، وكانت صلتي به وثيقة، وكان كل منا يخلط صاحبه بنفسه، ولكني لم أكن يومئذ إلا مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين في الأدب ورأي حاسم فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أنكر أنه أول من أخذ بيدي وسدد خطاي ودلني على المحجة الواضحة. وأني لولا عونه المستمر، لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى، ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى، أو أن يميل بي الجهل أو الضلال أو غير ذلك إلى ما تمردت عليه من زمان بعيد؛ فليس بين الهدى والضلال عند الابتداء إلا خطوة واحدة أو بعض خطوة، ثم يتباعد الطريقان ويذهب هذا شرقًا وذاك غربًا، ويا رب شبر واحد ماله المرء إلى هنا أو ها هنا — يمينًا أو شمالًا — عند مفترق الطرق؛ فكان هذا الشبر الواحد هو أول الخير أو أول الشر، ومفتتح الهداية أو مبتدأ الضلال. وقد كان من حظي أن وصلت المقادير أسبابي بشكري، فأعداني وأفادني صحة في النظر، واستقامة في التفكير، وفتح عيني على ذخائر وكنوز كنت حقيقًا أن أخطئها وأن تفوتني وأنا أتخبط وحدي».
ومما قلت عنه في هذه المحاضرة المنشورة:
«وإن شكري لأكرم ضحية في سبيل الأدب الصادق، وأنه لأنبل من تخونته صروف الأقدار في ميدان الجهاد. وإن اليوم الذي يبرز فيه اسم شكري وفضله من ظلمة الخمول التي يؤثرها هو الآن، لقريب جدًّا، بل أقرب مما يتوهم حتى شكري نفسه. وهنا موضع التحرز من وهم قد يسبق إلى الأذهان، ذلك أن فضل شكري ليس قاصرًا، على أنه كان من أول الدعاة وأخلصهم إلى الأدب الحي؛ فإن لآثاره الأدبية قيمتها المستقلة عن هذا الفضل».
قلت هذا عن شكري وأنا لم أضع يدي في يده منذ سنة ١٩١٩ إلى اليوم، لا لأني أحمل له ضغنًا أو أنطوي له على حفيظة، فما أحمل له أو لغيره شيئًا من هذا القبيل، بل لأنه هو شاء أن ينأى ويبتعد، ولست أستطيع أن أطارد أحدًا بصداقة لا يريدها، وأنا امرؤ ينسى المعركة بعد انتهائها، يستوي في ذلك أن أكون غالبًا أو مغلوبًا، فإذا كنت غالبًا لم أزهُ أو كنت مغلوبًا لم أتحسر ولم أحقد، وبحسبي أن أكون قد بذلت جهدي كله وأني لم أدخر منه شيئًا، ولو كان شكري يذهب مذهبي في الحياة لما وسعه شيء أن يصافحني بعد وضع السلاح وانقطاع الكفاح، ولماذا يظل الناس متنافرين طول العمر؟ إن الحرب تدور مرة أو مرات، ثم تسكن الحومة وتقر الفورة، فلماذا لا تسكن النفوس أيضًا وتنصرف إلى ما هو أجدى عليها وأولى بها من هذا «الاجترار» الدائم للحفائظ القديمة؟
على كل حال هذا شأن شكري لا شأني، فإن بي غنى حتى عن نفسي والحمد لله! وإنما كتبت هذا الكلام الكثير لأني أحب شكري وأجله ولأني نادم على ما صنعت به، تائب من ذنبي إلى الله معه، وله أن يصدق أو يرتاب فما لي فيه مطمع، ولقد حاولت أن أكفر عما أسأت به إليه، وأن أجره إلى الدنيا مرة أخرى؛ فأبى وقال اتركني ولا تنبش قبري وحسبي ما لقيت منك، فأقصرت ونفضت يدي بائسًا.
وإنه لسخف من الدكتور رمزي مفتاح أن يخوض فيما لا يعلم، وأن يكتب عن العقاد وعني ما كتب، ولست أظن العقاد مباليه، ولولا أن الود يعطفني على شكري، وأني آسف على ما أسلفت إليه من الإساءة لما باليته أنا أيضًا ولما أشرت إليه بكلمة.
ويحسن أن أنبه إلى أن الأستاذ العقاد لا ذنب له فيما وقع بيني وبين شكري، ولم يكتب حرفًا واحدًا يسوء شكري، ولقد كان من فضله علينا أن أصلح ما أفسدناه.