العيد للصغار دون الكبار؛ أعني أن فرحته للحدث لا الذي علَت به السن، فما له في عقل العاقل أي معنى، وهو إذا حسن جدًّا وطاب الوقت فيه وصلح الحال، لا يعد أكثر من فرصة تتاح للراحة من عناء العمل وجهد السعي والمغامرة، ولست أدري كيف يغتبط الحي بتصرُّم الأيام، وكل يوم يمضي عليه يهدُّ منه ويدنيه من ساحل الحياة أو من منحدرها — إذا شئت — والأيام تبنينا لتعود فتهدمنا، حتى ليخيل إلى المرء أحيانًا أن بها مثل عبث الأطفال، أو طفرة الفجار من ذوي السلطان، وما أكثر ما أقول لنفسي إننا لسنا في هذه إلا كخراف العيد التي نربيها ونسمنها ونملؤها لحمًا وشحمًا لنكرَّ عليها بالسكين في البكرة المطولة من صباح العيد، وكذلك تفعل الأيام بنا، وقل إنها تسمننا والأغلب أنها تُعجفنا، ولكنها على الحالين تملؤنا تجارب ومعارف، ثم تطوي الكتاب طيًّا يمحو كل ما خط فيه من الفوائد، فلو أن ما أفدنا يبقى بعد أن نذهب، ولا يلف عليه الكفن الذي يلف علينا … ولكنه يلحق بنا! ولو بقي الذي يستفيده المرء ويعتصره من الحياة لقَلَّ الأسف، ولما خامر المرء الشك في حكمة الحياة، وتصور أن يقضي المرء حقبة طويلة من الدهر يدرس ويتعلَّم ويحصل ويلخص ويعصر، ويعمر بهذا كله رأسه وصدره، حتى إذا جاءه الأجل مسح اللوح وامَّحَى ما كان مسطورًا فيه، ولم يبق إلا الجثة الهامدة التي لا خير فيها، بل الخير في تغييبها أو إيقاد النار فيها لتطهير الدنيا منها! ولا تزال الفوائد تحصل وتذهب على هذا النحو، والدنيا لا تُجنى منها ثمرة، فما أعجب هذا! فهل ترى كانت الدنيا تخسر وتفسد لو أمكن أن تتحفظ بما يكسبه المرء من التجارب ويفيد من الحنكة والمعرفة والدراية؟
والعيد لا يكون عيدًا فيما يحس الصغير، إذا لم ينل فيه ما تعود أو ما اشتهى، من لعبة أو كسوة أو هدية أو نحو ذلك، وللطفولة منطقها وفهمها الخاص للحياة، ولدواعي السرور والحزن، ولو أنك قلت لطفلك أني قد اشتريت لك ضيعة مُغِلَّةً تجيئك في كل عام بألف جنيه، أو إني قد ابتعت لك ألف سهم من أسهم بنك مصر لا تربح منها في السنة أقل من ثلاثمائة جنيه. لغضب واكتأب، وربما بكى وانتحب؛ لأنك تهدي إليه ما لا قيمة له عنده، وتهبه ما لا وزن له في حسابه، وتحرمه لعبة مشتهاة من مثل حصان آلي، أو أرجوحة، أو شخص ينقر على طبلة، أو زمارة يملأ بها البيت ضجة، أو كرة يقذفها فتكسر الزجاج وتحطم الأواني، أو غير ذلك مما لا آخر لضروبه وأشكاله. وأذكر — فيما أذكر من أيام الطفولة — أني كنت في كُتَّاب أو مدرسة أولية، وكان أبي حيًّا، وكنا في رخاء وميسرة، وكان للكتاب وقف مشروط فيه أن يُعطى كل فقير من الصبيان كسوة في العيد، بضع أذرع من نسيج خفيف في الصيف أو ثقيل إذا وافق العيد الشتاء، وكانت العادة أن يحمل المجدودون من الصبيان هذه الهدية ويمضون مع زملائهم المحرومين صفوفًا متتابعة إلى دار الوقف لرفع الشكر والدعاء، وعلمت أني لن أُعطى شيئًا، لأني كنت في ذلك الزمان الغابر من الأغنياء، ببركة أبي وجدي عليهما رحمة الله، حزنت وشق عليَّ الأمر، واستهولت أن أمشي مع الصبيان ويدي فارغة على حين يمشي من عداي متأبطين كساهم فرحين بها! فاشترى لي أبي «قطنية» زاهية الألوان ناعمة الملمس، وقال: خذها وامض معهم. فهل يعرف القراء ماذا صنعت بهذه «القطنية» الغالية؟! طرت بها فرحًا وتلقيتها من أبي، فلما صرت مع رفقائي ورأيت أن كساهم كلها بيضاء، وإن كسوتي دونهم صفراء وزرقاء وبيضاء؛ كرهت ما عندي، وودت لو ألقيت بها في الوحل، ولم أزل بواحد من الصبية أحاوره وأداوره وأخادعه حتى قبل أن يبادلني، فأعطيته «القطنية» النفيسة، وأخذت «البفتة» الرخيصة، وسرت مع الرفاق مزهوًّا، لا تسعني الدنيا من فرط السرور. وكانت هذه «البفتة» صدقة وإحسانًا، فهي عنوان فقر، والفقر في دنيانا مَذَلَّة، ولكني ما فكرت في هذا، ولا خطر لي سوى أن أندادي يحملون مثلها، فلماذا يُعطَوْن وأُحرَم؟ ويمشون حاملين وأمشي فارغًا؟ والقطنية من أبي لا من الكُتَّاب؛ فهي لا تقوم مقام (البفتة) المهداة، ولا تغني غناءها في تلك الساعة.
وبعد موت أبي، تولى إفقارنا أخ لي (كان) أكبر مني، وأقول (كان) لأنه لحق بأبيه، والعمر يقف بعد الموت، «فكنس ومسح» كما يقول العامة، ولم يكف إلا بعد أن لم يبق شيء يُكنس أو يُمسح، فكان شعوري بالفقر الذي صرنا إليه يحملني على رفض كل هدية — كائنة ما كانت — تجيئني من غير أمي أو أخي، فللطفولة منطقها السليم أيضًا، وإن بدا في بعض الأحوال غريبًا أو مضطربًا.
وكنا في العيد نُعطى بلا تقتير أو حساب، نأخذ باليمين وننفق بالشمال، وكلما فرغت أيدينا وذهب ما معنا عَدَوْنَا إلى أهلنا نطلب منهم أن يعطونا، وكان أمتع ما في العيد «البارود»، وهو فتيل ملفوف عليه ورق أحمر وبعضه في سمك القلم، والبعض أسمك من ذلك جدًّا، والأول يرص في علبة، والثاني يستعمل فرادى لضخامته، فكنا نشتري هذا وذاك، ونشعل فيها النار؛ فتنطلق منها مثل أصوات البنادق والمدافع، وقد بطل هذا، أو قَلَّ حتى ليندر أن يراه المرء، ولست أعلم أن الأطفال يستعملونه في هذه الأيام، فالحق أنهم حُرِمُوا متعة وتدريبًا.
والأراجيح تلي البارود، وهي أنواع، بعضها خيل تدور براكبيها حتى تدور رءوسهم، والبعض «دكك» أربع، كل اثنتين منها متقابلتان، وتدور كالساقية ونحن معها، ومِنَّا الجذل المسرور، والخائف الوجل، والذي يصرخ، والذي يغني، والعطوف الذي يُطَمْئِنُ المضطرب، والفظ الذي يتندر على رفاقه ويسخر من ضعفهم، والدكك دائرة — كالأيام — صاعدة بنا طورًا، وطورًا هابطة، لا تبالي من ضحك ممن بكى، ولا تحفل الذي فرح ولا الذي جزع، حتى ينتهي الدور، فيوقف الرجل العجلات ويقول: انزلوا أو هاتوا ملاليم أخرى.
ومن الأراجيح لوح مشدود من الجانبين إلى حبلين معلقين، يقف عليه المرء ويمسك الحبلين، ويروح يدفع اللوح بقدميه ويكف، فيتطوح من الخلف إلى الأمام، ومن الأمام إلى الخلف، فإذا كان قويًّا أو مدربًا بلغ بها علوًا كبيرًا، وكان الكبار منا دون الصغار مشغوفين بهذه الأرجوحة بسبب ما تتطلبه من القوة وحسن الموازنة.
أما الفتيات فكان ولعهن شديدًا بما يسمى «علي لوز»، وهو سكر يحل ويعقد ويزين باللوز والبندق والفستق وما إلى ذلك، وتحمله الفتيات في أطباق يدرن بها على الصبيان ويبعنهم منه، كل ملء ملعقة صغيرة بمليم، وقَلَّ من الصبيان من كان يفعل ذلك، إلا أن يكون صغيرًا جدًّا لا يميز بين الفتى والفتاة؛ فالمرأة منذ الصغر، ومن أول العمر، باب غُرْم على الرجل. وهي تضحك عليه صغيرًا، وتستنزف دمه كبيرًا، وتسخره في كل حال لما سُخرت له.
وقد دارت الأيام بنا وكبرنا، فلا عيد لنا، وما أكثر من لا عيد لهم حتى من الأطفال، وما عيد الفقير المحروم، وماذا عسى أن تكون فرحة الذي يحمله أهله إلى القبور، لزيارة أهلها في أيام العيد؟ على أن الأطفال قَلَّ أن يبالوا المقابر، أو يحسوا بإفسادها لمعنى العيد، والسعادة لا تخطئهم إذا لبسوا الثياب الجديدة وفازوا باللُّعَبِ المشتهاة، ووجدوا اللاعبين من أندادهم، وما زلت أذكر إلى هذه اللحظة أني بعد موت أبي كُنَّا على قبره في يوم عيد، وقد ألبست حلة مزركشة مقصبة هي شكة ضابط يتدلى من حمائلها سيف كَلِيلٍ كسيف أبي حية النميري ليس بينه وبين الخشبة فرق، فكنت أخطر في هذه الحلة وأستل السيف وأضرب به حجارة القبور والجدران والأبواب، وأنا فرح محبور لا ألتفت إلى الدموع المتسايلة على الخدود، ولا إلى معاني هذه الحجارة القائمة والصوى المرفوعة.
ولعل مصر هي الوحيدة التي يزور أهلها القبور في أعيادهم، لا يستثنون من ذلك عيدًا أو موسمًا، وكل مناسبة عندهم فرصة لهذه الزيارة، وهي أصلح ما تقضى فيه مواسمهم وأعيادهم، وأحسبهم ورثوا هذه النزعة عن المصريين القدماء؛ فإنَّا نراهم يقيمون على القبور بيوتًا ويشيدونها كالقصور، ويؤثِّثُونها، ويُعنَوْنَ بفَرْشِهَا، وغرس الحدائق فيها، وتعيين الحراس والخدم والقراء عليها، ويزورونها بالطعام والفاكهة والورود والرياحين وسعف النخل، وإذا كان فقيدهم قريب عهد بالوفاة زاروه بالبواكير من الفاكهة قبل أن يطعَموها في بيوتهم، ولم يستحلوا أن يذوقوها إلا بعد ذلك، وهذا كله مأخوذ عن المصريين القدماء ومقتبَس منهم، وممَّا نقلوه أيضًا أن يجعلوا المقابر على شكل الغرفة، يجرون في ذلك على عرق قديم، ولا دخل للدين في هذا، وإنا هو مزاج موروث، وعسى أن يكون ممَّا تحمل عليه طبيعة هذا البلد، ولا عجب فإن مصر هي أول من فكر في الآخرة والروح وعني بأمرهما، وجعل هذه الحياة الدنيا أشبه بالمقدمة لتلك التي تليها وراء أستار الغيب.