الكاتب: إبراهيم عبد القادر المازني
الناشر: جريدة البلاغ
تاريخ النشر: 7 يناير 1934
كان العزم أن أتم في هذا الفصل ما بدأته من الحديث عن «الجاحظ»، ولكن الدكتور زكي مبارك صرفني عن هذا بما كتب عني، وما أراه أحسن أو عدل فإن الجاحظ كان أولى بالكلام مني ومنه جميعًا، وقد زعم أن من حقي عليه أن يستدرجني إلى الكتابة والنظم والتأليف، فهو ألب مع الحياة عليَّ، وما أعرفني كففت عن الكتابة حتى يحتاج هو أو سواه أن يستدرجني، ولقد تكفل الرزق بحملي على هذا المكروه، فماذا يبغي فوق ذلك؟ وليتني أعرف السبيل إلى الكف! ولشد ما أود أن ألقي القلم وأستريح من عناء باطل، وأريح الناس من هذر طويل، أما الشعر فلا والله لا عدت إليه! وما أظن بفتن الدنيا إلا أنها عاجزة عن أن تردني، وما أستطيع أن أغش نفسي أو أخدعها عن حقيقتها، وما زال في جنبات الأرض مراح لمن يبغي المراح، فما تغيرت الدنيا ولكن تغيرت نفسي، واختلفت نظرتي، وعلى أن الشعر ليست مادته الوحيدة الجمال كما يبدو لي أن الدكتور زكي يظن، والحب ليس مصدر الوحي الذي لا مصدر سواه، فإن كل ما في الحياة مادة صالحة للشعر لو عرف المرء كيف يتناولها ويؤديها، وإن صديقي ليخطئ إذا كان يظن أن زهدي في الشعر مرجعه إلى فتور في الإحساس أو خمود في جذوة الشعور، وأن الوحي ما انقطع إلا لأني فطمت نفسي عن الحسن. لا يا صديقي، وإنما أمسكت عن النظم لأني حاسبت نفسي، ووازنت قوتي وضعفي، ووضعت اقتداري في كفة وقصوري في كفة، فرجحت هذه وشالت تلك، وقست مجهودي إلى غايتي فألفيت الغاية بعيدة والمذهب إليها أطول مما أطيق وأشق مما أحتمل، فتحسرت وأقصرت، وقلت لعلي أحسن غير هذا، وانثنيت أعالج سواه، وما أراني أفلحت، ولكن اليأس لم يشع في نفسي، فأنا ما زلت أحاول، فإذا كتب الله لي التوفيق فله الحمد، وإلا فحسبي أني سعيت ملحًّا.
وينابيع الشعر لا تنضب، وبواعثه ليس لها حصر أو آخر، والغزل ليس كل الشعر ولا أجله، كما أن الجمال ليس كل ما في الحياة ولا أروع ما فيها، وقد كان المعري أعمى وكان شاعرًا ليس كمثله شاعر، والإحساس بالجمال لا يذهب به انعدام القدرة على الفوز بمتعه، فقد فلج هيني الشاعر الألماني أو أصابه ما هو شر من الفالج، فكان يُحْمَل كالطفل، وتُفْتَح له عيناه، ويوضع له الطعام الخفيف في فمه فلا يحسن مضغه ولا يزدرده إلا بجهد مضن، وصار نظره في حكم المكفوف. ويروون عنه مع هذا أنه عشق وهو على حافة القبر امرأة تدعى «كاميللا سيلدون» ويقول مترجمه المستر هـ. ج. أتكنز أستاذ اللغة الألمانية في جامعة لندن: «ومع أن المرجح أنه غالى في تقدير مواهبها، إلا أنها كانت عنده فوق منزلة المساعد المأجور، (فقد اتخذها كاتبة له)» وحسبنا أن نقرأ الرسائل التي كتبها إليها، والقصائد التي أوحتها، لنعلم أن هذا الكسيح الميئوس منه — هذا المفلوج الذي خبا نور عينيه أو كاد، هذه الصدفة التي لم يبق منه سواها — قد استولى عليه حب، إذا كان ألطف وأرق من كل معاشقه الأخرى، فإنه مع ذلك لم يكن أفلاطونيًّا وإنما كان شهوانيًّا حارًّا كحب الشاب. وأعجب من هذا أنه أثار في نفسها مثل حبه لها، فلم يعد يطيق أن تغيب عن عينه … وكانت هذه هي التجربة العظيمة في الأشهر الثمانية التي بقيت من حياته. واستدارت حياته، وكان يحيى على ذكريات الشباب، فألفى نفسه يعشق مرة أخرى … ويقول في ختام رسالة إليها: «لا أعرف شاعرًا غيري أبلغه سوء حظه ذروة السعادة في وقت يسعها فيه أن تسخر منه» إلخ إلخ. وفي الليلة التي مات في صباحها ألح عليها، وهي تنصرف، أن تعود إليه في الصباح، وكان يعلم أنه هامة اليوم أو الغد — كما يقول العرب، وكان يخبر إخوانه في رسائله أنه مشفٍ على التلف، ولم يكن يخفى عليه أنه جثة وأن فرق ما بينه وبين أهل القبور، أنه ينطق وهم لا ينطقون، وأنه يفكر بعقله ويحس بروحه وهم مرتاحون.
وما قلت أني فقدت «الإحساس»، وإنما قلت أني «استضعفت» شعري، وأني لا أراه يبلغ بي حيث أريد، وفرق بين الحالين، والأولى موت والثانية حياة، ولا تلتبس حياة بموت، والخلط بينهما أعجوبة، وقد يبقى الشعور وتذهب الإرادة، ويظل الإحساس قويًّا تامًّا ويفتر العزم والطلب، أو يضعف النشاط وتعاني النفس ثقلة تصرفها عن المحاولة، أو تجرب ما يزهد أو يحدث غير ذلك مما لاسبيل إلى تقصيه. وإذا كنت قد قلت أني أخشى فتنة الذكريات السوالف، وأخاف أن يضربني الماضي بسحره، فلا أدري لماذا يصرف صديقي هذه الذكريات إلى الحب؟ ويقصر السحر على الجمال؟ إن لي قصيدة مما لم ينشر في ديواني، اسمها «كأس النسيان» وفيها أقول:
هاتِ اسقني سلوةً عن الذكر
|
أنسى بها ما مضى من العمرِ!
|
ومنها:
هات اسقنيها وخلِّ نشوتها
|
تمحو الذي في الفؤاد من صورِ
|
وخذ كنوز العقل وارم بها
|
من حالقٍ للرياح والمدرِ
|
كم غصت في لجة الحياة فما
|
فزت بغير الصخور والحجرِ
|
وكم نفضت اليدين من حجر
|
حسبته درة من الدررِ
|
ومنها:
ما ضرني لو جهلت ما علمت
|
نفسي وما قد أفادني نظري؟
|
أو لو نسيت الذي شعرت به
|
في كبري الآن لدن صغري؟
|
أو لو سلوت الذي كلفت به
|
على الذي كان فيه من سَكَرِ؟
|
أَثَمَّ صوت تعيد نبرته
|
إليَّ ذكرى الربيع والزهرِ؟
|
أَثَمَّ عين تثير نظرتها
|
أحلام نفسي في ريِّق البكرِ؟
|
وتنشر اللذة المضيئة لي
|
حُلمًا من العيش جد مبتكرِ؟
|
نعم لعمري في الأرض زينتها
|
من مسمع فاتن ومن نظرِ
|
وروضة العيش جد حالية
|
من زهر مونق ومن ثمرِ
|
كأنها لافترار بهجتها
|
تحير نطقًا لمدمن البصرِ
|
واها لقمريِّها إِذا اتسقت
|
أسجاعه واستراح للسحرِ
|
واها لسحر في لحظ نرجسها
|
يسطو بوقع السجو والفترِ
|
واها لأيكاتها إِذا همس
|
النسيم في أذنها مع القمرِ
|
لكن أغصانهن يا أسفًا
|
بعيدة من منال مهتصرِ
|
أُصِبت في العزم لا الشعور فإِن
|
أدرت لحظي في الشيء لم يدرِ
|
وإِن مددت اليدين خانهما
|
عزم الشباب الجريء ذي الأشرِ
|
يذعرني الشيء كان يجذبني
|
لشد ما أستجير بالحذرِ
|
أحمل عبئًا من السنين فما
|
عسى وراء الغايات منكدري؟
|
ولي من الذكريات حاشية
|
في حيث أمضي — محشودة الزمرِ
|
فهاتها إِذ عرا الشجون بها
|
حتى أراها تطير كالشررِ
|
لِمَ لا أبت الذي يقيدني
|
بما مضى وانقضى من العصرِ؟
|
إني أراني قد حلت وانتسخت
|
مع الصبى سورة من السورِ
|
وصرت غيري فليس يعرفني
|
— إذا رآني — صباي ذو الطررِ
|
ولو بدا لي لبت أنكره
|
كأنني لم أكنه في عمريِ
|
كأننا اثنان ليس يجمعنا
|
في العيش إلا تشبث الذكرِ
|
مات الفتى المازني ثم أتى
|
من مازن غيره على الأثرِ
|
وقد سقت هذه الأبيات وأنا خجل منها، لأنها بسبيل مما أقول، ولأنها تبين للدكتور زكي مبارك وللقراء أن التطور في النظر راجع عندي إلى أكثر من عشر سنوات. بل إلى أكثر من سبع عشرة سنة كما يعرف صديقاي الأستاذ العقاد والأستاذ حسن السندوبي، فقد اطلعا على قصيدة لي اسمها العراك لم تنشر في ديواني، وهي أطول جدًّا من أن تُنْقَل هنا لأن عدة أبياتها أربعمائة وخمسة وثلاثون، ولكن فيها هذه الأبيات على لسان النفس وهي تخاطبني:
نضب العزم — والمنى ثرة العين
|
لعمري ما أسوأ القرناء
|
شيبة العزم مع شباب الأماني —
|
أضعيف يظاهر الأقوياء؟
|
دون ما تبتغي حوائل ضعف
|
فاجعل العزم والمنى أكفاء
|
أيها الطين ما ترى بك أبغي؟
|
لست فيما أرى لشيء كفاء
|
إِن طلبت السماء قلت لي الأرض،
|
أو الأرض كنت لي عصاء
|
صرت حتى الذي أفكر فيه
|
لست أسطيع صوغه والأداء
|
والتطور كما يرى صديقي ويرى القراء قديم، وقد صرت من فرط التحول أرى أن الجمال هبة من المحب، وعطية منه للمحبوب، فإذا جاز للجميل أن يدل بحسنه ورونقه فإن للعاشق أن يتيه عليه بحبه له، لأن عين المحب هي التي تلبسه الحسن، ولأنه إذا لم يكن معنى الحب موجودًا في الجمال، فلا جمال هناك، ولا معنى إذن للضعف والإذعان من العاشق والتدلل الثقيل من المعشوق، وأولى بالجميل أن يشتاق أن يُحَبْ وأن يفرحه ذلك لا أن يُبْطره. وقد قلت في ذلك أبياتًا لم تنشر منها:
تبًّا لذلك من حسن! ووا أسفًا
|
عليه من مستعار ثم مردودِ
|
عطية الحب هذا الحسن فاتئدي
|
ولاتتيهي بحبي فهو مجهودي
|
ولست أهلًا لإمتاع برونقه
|
إن راح معناي فيه غير موجودِ
|
إِن الرياض رياض بالشعور بها
|
ولسن سيين في العمران والبيدِ
|
والحسن حسن بأن تهواه أفئدة
|
أو — لا — فذلك موجود كمفقودِ
|
فمن أحب فقد أهدى لصاحبه
|
حسنًا وسربله سربال منشودِ
|
وليس فضلك إِلا أن لي كبدًا
|
تهوي إِليك بأسراري ومشهودي
|
وليس أثقل من مثل هذا الكلام في نفس حبيب، ولكنه الحقيقة، وبلغ من وقع الحوادث في نفسي أن صرت إذا أخذت عينى منظرًا حسنًا أرى آخر الأمر بأول الظن؛ فتفزعني الخاتمة وتصدني عن الحلاوة القصيرة العمر، وصار هذا داءً مخامرًا حتى لقلت فيه بيتين أرويهما لاستشهاد، وهما مما لم ينشر:
أرى رونق الحسناء في ميعة الصبا
|
فيوضع بي شؤم الخيال ويعنقُ
|
ويشهدنيها في التراب مرمة
|
وقد غالها غول الحِمام الموفقُ
|
فما القول فيمن لا يرى ذات حسن إلا تصورها راقدة في قبرها — وإن كان القبر غاية كل حي — وقد عدا عليها البلى وأصارها جيفة! أويعرف الدكتور زكي أشأم من هذا الخيال الذي ينغص على صاحبه منظر الجمال بهذه الصور؟ وأحسبني صرت كذلك لطول ما أقمت بين المقابر، وكثرة ما نزلتها، وياما أكثر ما سويت في ظلمتها التراب، وحسرت في وحشتها عن الوجوه، وفي نفسي يدور قول الشريف الرضي:
صور ضنت على العيون بلحظها
|
أمسيت أوقرها من البوغاء
|
ونواظر كحل التراب جفونها
|
قد كنت أحرسها من الأقذاء!
|
ففرق ما بيني وبين الدكتور زكي مبارك أن نفسه موصولة بالوجود وأن نفسي موصولة بالموت، وأنه يفتنه وقع الحياة وأنى يفتنني دبيب الفناء اللازب، وأنه يخالس الحين المحتوم وينتهب ما يسعه انتهابه من طيبات العيش، وأني أواجه هذا الحتم في حياتي قبل الأوان وأتعقبه بعيني وأتأثر دبيبه إلى كل شيء. وليس هذا عنده من فيض القوة ولا هو عندي من فرط الضعف وإنما هي أمزجة وطباع.
ويزعمني الدكتور أنني أريد أن أمحو شعر العواطف، وما أبغي شيئًا من هذا، ولا أنا أدعو إليه، وإني لأدري أن الإنسان يعيش بالعاطفة والطبع أكثر مما يعيش بالعقل والمنطق، ولكن الشهوة الهوجاء عرام وجماح، وسبيل المدنية أنها تنظم تدفق العواطف وتحولها إلى مسارب تصلح بها حياة الجماعة، والعواطف كالماء المتحدر، تحتاج إلى السدود والحواجز ليعظم الانتفاع بها، ويتسنى استخدامها في الخير، ولتمتنع البعثرة والتبديد، ولا صلاح لجماعة إلا بتهذيب الغرائز وتنظيم العواطف، والعاطفة أداة لا غاية، والمرء يشعر بالجوع لأن الجوع هو الوسيلة التي تنبهه بها الغريزة إلى حفظ ذاته من التلف، ولكن الطعام ليس هو الغاية، وإنما الغاية هي المحافظة على الذات باكتساب القوة التي يفيدها الغذاء، وكذلك الحب ليس في مرد أمره سوى تنبيه أو إغراء بالمحافظة على النوع، فهو أداة لا غاية ووسيلة لا غرض، وفي الحب متعة كما أن في الطعام الشهي لذة، ولكن الطعام لا يطلب لذاته، فلماذا يطلب الحب لذاته، وكلاهما أداة تنبيه وحفز وإغراء ليس إلا؟ والحب عند الحيوان مظهره التنزي، ولكنه صار في الجماعات الإنسانية أصل نظام الزواج، والزواج كبح وتنظيم، لا أكثر ولا أقل، والأنانية أصل في الإنسان، ولكنها اتخذت على الأيام، ومع رقي الجماعة، مظهر الوطنية — والوطنية ضرب من الأثرة في الجماعة، غير أنها على هذا تدفع إلى الإيثار الرائع والتضحية الجليلة، فمن شاء أن يقول في الحب فليقل ما شاء، ولكن لا يقل ضعفًا وخلطًا، وقد قلت أن المرء بأن يغتبط بالحب ويفرح أولى منه بأن يحزن ويشقى، وما زلت على هذا الرأي، وفي الحياة التوفيق والإخفاق، والخيبة في الحب لا ينبغي أن تعد خيبة للحياة كلها، فما هي بأكثر من أية خيبة أخرى في أي مطلب، والبكاء والعويل والندب واللطم من أجل بعد أو فراق أو غير ذلك عجز وقلة حيلة وضعف لا يغتفر، والخدود لم تخلق للَّطم ولا العيون للبكاء ولا الحناجر للصراخ والإعوال، وللإنسان في الحياة عمل غير هذا، وواجب أجل وأسمى، والحب — كالموت — شيء مألوف، وجديده ليس أقدم منه، ولا خير في أن تظل تقول لي — في كلام منظوم أو منثور — أنك تحب، وأنك تحب، وأنك تحب، وإنما الفضل والمزية أن تبين لي ماذا حرك الحب في نفسك من المعاني والخواطر والخيالات والإحساسات والصور، وأن تطلعني إذا شئت على اتجاهات نفسك، والتفاتات ذهنك، وأن تجعلني بكلامك في هذا أحس بالحياة، وأعمق شعورًا بها، وأحسن فهمًا لها، وأصح إدراكًا لحقائقها، فكأني جربت ذلك، وبلوته بنفسي، وفتحت المعاناة عيني على كل ما هنالك وجعلته في متناول إحساسي وإدراكي، وبذلك تقوم قراءة الشعر — أو النثر — مقام التجربة الشخصية. أما إذا لم يزد الكاتب أو الشاعر على أن يقول أنه يحب، وأنه موجع القلب، وأنه، وأنه، مما يجري هذا المجرى، فإن هذا يكون وجع قلب للقراء لا يستحقونه! وكذلك في كل عاطفة أخرى.
ومن المغالطات التي صرنا فيها إلى التقليد المحض والحكاية الصرف أن نقول إن فلانًا خلي وفلانًا شجي، ونعني بذلك أن أحدهما قلبه فارغ من الحب وثانيهما قلبه مترع، وما يخلو قلب مما يترعه وإن خلا من الحب، فما كان الحب كل ما في الدنيا، وقد صرنا إلى التقليد في هذا بلا تفكير لأنا رأينا السلف يقصرون الاستعمال على هذين المعنيين حتى أصبح اللفظان كالعملة المسكوكة، لا تستطيع أن تتصرف بها إلا بقدر ما كتب عليها، وقد جاء في مقال الدكتور زكي مبارك: «أما ما تشير به ضبط النفس وبعد النظر إلى ما بعد اللحظة الحاضرة؛ فكلام جميل ولكنه لا يصدر إلا عن قلب خلي، والخليون من أقدر الناس على سوق العظة وضرب الأمثال».
والذي أريد أن أفهمه هو: إذا كانت النفس خالية فارغة فأي ضبط تحتاج إليه؟ أليس من الواضح أن الضبط والكبح لا يكونان إلا مع الشغلان؟ ولا قيمة لضبط النفس إلا إذا كانت مضطرمة، أما مع الخلو فلا فضل للمرء في ذلك إذ لا عسر ولا مشقة، وليست المسألة أني خلي وأن صديقي شجي، وإن في وسعي لهذا أن أعظ، وإنما المسألة أن الدنيا تصير إلى الفوضى إذا راح المرء يسلس العنان لجمحات إحساسه، كلما طغى به شعور، وليس فضل الإنسان أنه يحس، وإنما الفضل في اللجام الذي تضعه الإرادة لتتزن الخطوات، وتعتدل الحياة، وتستقر الأمور على حدود محتملة.
وبعد فلعل صديقي بعد أن يقرأ هذا يرى أنه تجنَّى عليَّ حين اتهمني بسوء النية وخبث القصد حين قال: «أغرم الأستاذ المازني منذ سنين بنفي الشعر عن نفسه ليتحرر من ماضيه تحررًا مطلقًا، وبذلك استطاع أن يهاجم شوقي وأن يداعب حافظًا، ثم عاد فتبرأ من شعره براءة قاطعة لينفي الشعر عن صديقه الحميم زكي مبارك».
ذلك أني نقدت شعر حافظ وشوقي قبل أن يزول عني الوهم وأيام كنت أقول الشعر مغترًّا بنفسي مخدوعًا فيها، وديوان زكي مبارك لم يظهر إلا منذ أيام أو أسابيع، وهو يعترف أني أبرأ إلى الله من شعري منذ سنين.
ولا يخف أن أهدي إليه نصيحة — كما يقول — فإني أعرف أن أتعب خلق الله قلبًا من يدور على الناس بالنصح، وليس أثقل على خلق الله من الناصح، وما كنت أنصح له وإنما كنت أشرح مذهبي في الشعر وحالي معه، لأنصف نفسي وأنصفه من سوء رأيي في شعره، وليس عليه من ذلك كله بأس، فليمر به متسامحًا، وليعذر من لا يفهم، وليملأ السماء والأرض شعرًا، فلن يجد قارئًا صبورًا مثلي.
ولم يصدق [القارئ] الذي أَخبره أني أَحفظ بيتين من ديوانه ألهج بهما معجبًا فما أحفظ شيئًا له أو لسواه، وإن ذاكرتي لغربال واسع الخروق.
بقيت الترجمة، فأنا أقول أن الجيد في لغة يجود في أخرى، وأن الكلام الذي تفقده الترجمة قيمته، لا تكون له قيمة حقيقية. وهو يرى غير ذلك، ويمثل بالقرآن الكريم وترجمته، والقرآن فوق هذا فلندعه. ولا أذكره بأن لكل لغة بلاغتها، وأنه ما من لغة انفردت بالبلاغة واستبدت بحسن الأداء، والمترجم لا ينقل ألفاظًا وإنما ينقل معاني؛ فإذا كان ممن أوتوا القدرة على العبارة، ورزقوا موهبة الأداء، استطاع أن يجعل الترجمة في وزن الأصل، ولم يخسر الأصل بالترجمة شيئًا، وربما ربح، والألفاظ بمجردها لا قيمة لها وهي شيء ميت لا يحييه إلا أن يتعلق بعضها ببعض على مقتضى المعاني، وهي وحدها كالثياب المعلقة، والثوب يكسو اللابس ويزينه ولكنه — أي الثوب — لا تكون له شخصية ولا يعرف الإنسان مزيته إلا حين يكون ملبوسًا، وكذلك اللفظ؛ فإذا فقد الكلام بالترجمة المحكمة شيئًا، فإنما يفقد الزيف. والحكم صحيح على إطلاقه، والقول بهذا تعصب ودعوى عريضة للغة دون لغة.
حاشية: لفتني بعض الإخوان إلى عبارة في مقال الدكتور زكي مبارك لم أفهمها في أول الأمر، وهي: «وهذا الطيف الذي نام عن ليل المازني وأسهره كان معروفًا في القاهرة إلى عهد قريب، وهو اليوم طيف مشرد لو أوى إلى جفن المازني لطرده ورده أقبح الرد إلخ إلخ».
وقد دهشت وأسفت لهذا الإسفاف، وودت أني ما علمت هذا، ولا التفت إليه، وأني بقيت على حسن ظني بالرجل، فليسمح لي أن أجعل هذا آخر ما بيني وبينه والسلام عليه.