رأيت الموت في صورة الشنع، وعرفت وقعه، ولذع مصابه، وهول معناه، وأنا صبي أتهجَّى وأحسب الحياة كرة تُضرب وحلوى تؤكل، وقد مات أبي على عيني وكان مهول الحلم، صليب الإرادة، قليل التَّشَكِّي، فلما حضرته الوفاة نادى أمي وأمرها أن تُرقده على القبلة، ثم ابتسم لي ودعاني أن أقبله، وفاضت روحه في عناقي حتى لخلته قد نام، ثم اختفى من بيننا؛ فغاب الخير كله. وشهدت جدتي لأبي وهي في سياق النزع أربعة أيام بلياليها، وكانت سِنُّها عالية، وأحسبها أَرْبَتْ على التسعين إلا أنها كانت قوية، فلما جاء أجلها جعلت تفهق، ولا تكف عن ذلك حتى اختارها الله. وماتت ابنة لي بين ذراعيَّ، وظلت حشرجتها ثلاث ساعات، وأنا أنظر إلى وجهها الصغير وأراعي عبث الموت به وتشويهه له، وأرى كيف يخبو ضياء الناظِرَيْن وتصبح العين كالزجاجة. وقضت زوجتي الأولى ويدي على رسغها، وعينها تحدق في وجهي، ودمها ينزف، والموت يشيع فيها شيئًا فشيئًا، وأخيرًا ماتت أمي فشهدت أعنف عراك بين الحياة والموت، أو بين إرادة الحياة وعدوان الفناء. وأحسب القارئ يعرف ماذا يصنع الرجل إذا أبقي في الماء وكان لا يعرف السباحة، وكيف يروح يجاهد ويخبط بيديه ويضرب برجليه ويدفع برأسه، ويحاول أن يقتنص بضعة أنفاس من فوق الماء يستعين بها على الصبر والمقاومة، كذلك كانت تفعل أول ما أصابتها الذبحة، ولبثت ثمانية أيام تكافح في كل ساعة منها صورة جديدة مما يكرُّ الموت به عليها ليهزمها أو على الأصح ليخنقها، حتى لقد كان يكبر في وهمي أحيانًا أن هناك يدًا تقبض على عنقها لتحبس أنفاسها، وهي تعالج الفكاك والتملص، حتى كلَّت وأسلمت الروح، ومن ذا الذي لا يهزمه الموت؟
هذا الموت الذي يصنع بنا ذلك ماذا هو؟ هو في نظر الأحياء غول موفق، يعدو على الرضيع والصبي والشاب والشيخ، ولا يُبقي ولا يذر، ولا يحترم قوة، ولا يدرك على الضعف عطفًا، ولا يُكبر علمًا، ولا يُقدِّر أدبًا، ولا يَرِقُّ لحسن، ولا تصده تقوى، ولا تردعه سذاجة، ولا تغلبه حيلة، ولا يُجدي معه مكر، وأهول ما يروع المرء منه ما يتصوره من فعله، ومن منافاته ومحوه لمعنى الحياة. هذا إنسان مُحِسٌّ مدرِك يروح ويجيء ويأكل ويشرب ويضحك، يلعب ويخاف ويرجو، ويحزن ويفرح، ويطمع ويزهد، ويشقى وينعم، ويقعد أو يسعى، ويخيب أو يفوز، ويفتح له التفكير ميادين لا آخر لها يُعرف، ويكاد أحيانًا يُحَلِّقُ فوق الحياة ويجوز حدودها ويتصل بروح الكون، ويلهم ما لا ينفع فيه تفكُّر أو يهدي إليه تدبر. هذا الإنسان يمسي جيفة تسد الأنوف من نتنها، جيفة يشق على المرء أن ينظر إلى بلاها، أو أن يحتمل ريحها الخبيثة، وينضب كل ما كان من ماء حياة مستجير ومن سحر، وينعدم ما كان من حس وإدراك، وتجف الأماني، ويقف العقل، ويتعطل الخيال، ولا يبقى إلا شيء من الإكرام له، ومن الخير للناس أن تدفنه عن العيون.
ولكن هذه المقابلة بين الحياة والموت قَلَّمَا تكون في شباب العمر؛ لأن قوة الحياة تكون أزخر وعباب تيارها يكون أطمى من أن يتجه الخاطر إلى ركود الموت، والتفكير في الموت يجيء مع الإحساس بأنَّ فيض الحياة أخذ يضعف، وأنَّ نبعها لم يَعُدْ كما كان ثرًّا؛ فيستيقظ الشعور بالذات يقظة المُحِسِّ بالخطر عليها، ويكذب من يقول لك إن خاطر الموت لا يجري له في بال، وإن فكرته لا تروعه؛ فإن غريزة حفظ الذات مركوزة في الطباع، وهي تَقْوَى على الأيام في الإنسان وتزداد تنبُّهًا؛ إذ كانت حياة الإنسان كلها تعرضًا واستهدافًا للمخاطر، والتجربة والمعاناة يشحذان هذه الغريزة، والموت هو الخطر الأكبر على الحياة فيما يحس كل مخلوق، حتى الحيوان يجزع منه بفطرته الساذجة، فغير مقبول من امرئ أن يقول إن خاطر الموت حسن الوقع في نفسه، ولكن من الممكن أن يقول الإنسان إنه راضٍ نفسه على السكون إليه؛ إذ كان لا منجى منه ولا متحول عنه.
على أن الخاطر قد ينثني إلى الموت ويطول تفكيره فيه، حتى في أيام الشباب الجامح، ولقد عانيت آلام هذا التفكير وتنغيصه في صدر حياتي، وكان يفزعني ذكر الموت حتى لقد كنت أعوذ بأهلي وأحيط نفسي بأذرعهم، كأنما كنت أتوهم أن في وسعهم أن يحموني من أن يخطفني، والعجيب أني كنت أحس بهذه الحماية، أو قل إن إحساسي لم يكن أن في وجودهم حولي حماية لي، بل بأن هذا الوجود فيه مقدار من الإيناس يَرُدُّ بعض الطمأنينة إلى النفس، ومع الطمأنينة يعود إلى المرء شيء من اتزان الأعصاب، ومتى اتَّزَنَتِ الأعصاب خَفَّ عن النفس كرب الخوف والجزع، وليس الجزع من الموت جبنًا، وإنما هو نقص في اتزان الأعصاب يتعذَّر معه التفكير الهادئ الرزين الذي يستطيع وحده المحافظة على التناسب الحقيقي بين الأشياء.
ولفرط جزعي من الموت في شبابي، وهول ما قاسيت من آلام هذا الجزع، قلت أتداوى بالداء، فنقلت سكني إلى حيث أجداث الموتى، وحيث كل قبر يصير — كما يقول المعري — قبرًا مرارًا ضاحكًا من تزاحم الأضداد؛ لتألف نفسي فكرة الموت وتسكن إليها! وتتبلد بذلك، والعادة تبليد. والطرق عديدة إلى حيث سكنت، ولكني كنت أوثر المشي بين المقابر في النهار وفي فحمة الظلام، وأتعمد ذلك وأحمل على نفسي به، حتى برئت من هذا الجزع أو على الأصح تبلدت وسكنت وفقد خاطر الموت لذعه، وقد رويت للقارئ من قبلُ كيف وقعت مرة في قبر متهدم عانقتني فيه جثة، وأحرى بهذه التجاريب أن تشفي، وأن تفرغ على النفس القدر الكافي الواقي من البلادة أو الاعتدال في الإحساس، وقد أصبحت من البلادة بحيث لا يبزني في ذلك دافنو الموتى أنفسهم.
ولو سئلت الحياة عن رأيها في الموت لخالفت الإنسان، والإنسان يبغي البقاء والدوام، ولو بقي لفقدت الحياة غايتها وبطل فعل عواملها، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن دوام الحياة لمخلوقات بأعيانها يعصى على «الحياة» نفسها وينفيها، فلا تعود هناك حياة لها سنن، وإنما يكون هناك وجود هو عبث محض، وقد فصَّلنا ذلك في «حصاد الهشيم» ولعلنا نعود إليه في فرصة أخرى، والموت ليس فناء، ولكنما هو طَوْرٌ من أطوار الحياة، والذي يموت يخدم «الحياة» ويغذي عناصرها، كما يخدمها من وجوه أخرى، وهو حي يرزق، وليست خدمة الميت «للحياة» بأقل من خدمة الحي، ولا هذه الأخيرة أولى أو أحق بالرعاية، والقانون واحد للأحياء وللموتى، وليس للفرد قيمة خاصة، وكلٌّ قيمته عند نفسه لا في نظر الحياة، وهي قيمة مبعثها الشعور بالذات، ولو فقد المرء شعوره بذاته لفقد تبعًا لذلك ما ينحل نفسه من القيمة، ولما عَزَّ عليه الموت إلى هذا الحد، ولا استهول أن يصبح، فإذا هو جثة هامدة لا سعي لها ولا حس ولا رُوح فيها ولا نَفَس، تتحلل في التراب وتمتزج بعناصره وتتفاعل معها لتساعد «الحياة» على الإنتاج، كما ساعدها في وجوده فوق ظهر الأرض بصور الإنتاج المختلفة التي قدر عليها ووفق إليها. وقد لا نفهم الغاية التي تقصد إليها الحياة، أو قد تقصر أذهاننا المحدودة عن إدراكها، ولكن عجزنا نحن — المحدودي الأذهان — عن إدراك كنه الحياة والتفطن إلى غاياتها ليس بدليل على أن ليس للحياة غاية، وإن كان كذلك ليس بالدليل على أن لها غاية، ولكن الحياة لا تكرر نفسها؛ لأن التكرار يكون عبثًا وسرفًا، وهذه الصرامة في قوانين الحياة والدقة الرائعة في سننها تُنَزِّهَانِهَا عن العبث، وأخلق بالإنسان — إذا نظر إلى الموت من هذه الوجهة، وجهة الحياة بالمعنى الأوسع — أن يرى فيه من السحر والفتنة مثل ما في الحياة نفسها، وأن يحس بنفسه تسمو وتحلق وتمتزج بروح الكون، وتتسرب فيها كالموجة في الموجة، وأن تذهل عن الخواطر الأرضية جميعًا.