في أشهُر معدودات — في مدى صيف واحد — فقدت مصر اثنين عاشَا على رأس جيلهما، واستطاعا بعد أن تقضَّى العصر الذي أخرجهما وتغيرت الدنيا التي نشآ فيها، أن يحتفظا بمكانيهما من زمنها، وأن يثبتا على دفع الزحمة الجديدة، وأن يبقيا عنوانًا على مصر، وحلية في تاج زعامتها للشرق؛ فالآن مضى الموت بشِقَّيِ العنوان، وعطل التاج من حليتين كان لهما من القدم جلال، وإذا كانت الحياة كفاحًا بين الآراء والمذاهب والعقائد كما هو بين الناس وسائر المخلوقات؛ فإن الموت ينزع سلاح الكفاح، ويَسْتَلُّ البواعث عليه ويمحو الدوافع إليه، والموت خليقٌ أن يغري المرء بالوقوف لحظة مترددًا حائرًا متفكرًا مضطربًا، إذا كانت هذه نهاية الحياة وخاتمة المساعي فيها وآخرة الفضيلة والرذيلة والحق والباطل والجلال والجمال والخير والشر؛ فأي شيء في الدنيا حق؟ وأي شيء فيها باطل؟ وأين هي الحدود والمعالم؟ وإلى أي مدى تتداخل أو تتصل؟ وأين تفترق؟ ولقد عشت من العمر ما يكفي لأن يعلمني أن الهدى والضلال أقرب شيئين ابتداء، ثم يفترقان ويتباعدان، ولكن إلى أي مدى؟ لا أدري ولا أعرف من يدري، وليس بمخلص لرأيه من لا يخالجه الشك فيه أحيانًا، ولا يرجه الخوف أن يكون على ضلال. وما أكثر ما يكون رفض الشك غرورًا، ولكن بأي شيء يهتدي المرء في هذه الدنيا التي تنتهي الحياة فيها إلى ظلام قبر لا يري النور من يراه؟
والحق أقول إن موت شوقي هزَّني، فقد كنت في حياته أتناول شعره برأي لي في الشعر ينزع بي إلى الرفض، وإني في هذا لصادق السريرة؛ فقد تناولت نفسي قبله وقستها بهذا المقياس عينه، ووضعتها في الميزان الذي وضعته فيه، فرفضت شعري أيضًا، ونفضت يدي من النَّظْمِ وكففت عنه لأني أيقنت أنه لا يرقى إلى الطبقة التي أتمثلها، ولكن الموت قلَّابٌ لوجوه المسائل، وهو يبدي من الصفحات ما لعله كان مغيبًا، وإن كان على هذا يغيب ما كان باديًا معوضًا، ويخلع عن المرء كل ما هو عرضي، ويجره من كل شيء إلا الفضل والحق، فأحرى بالإنسان أن يقف برهة يتأمل مقاييسه، ويتدبر موازينه؛ لعله يعرف إلى أي حد كانت هذه المقاييس مضبوطة، والموازين دقيقة، والتقدير سليمًا، والنظرة صحيحة، ومن ذا الذي يسعه أن يطمئن إلى الدقة والسلامة والضبط والإحكام، والحياة بحر تتلاطم فيه أمواج الصدقات والخصومات، ويختلط فيه الإحساس بالرأي، والعاطفة بالعقل، ويتسرب الشعور المتأثِّر بشتى البواعث — ظاهرها وخفيها ومعروفها ومجهولها — في ثنايا القضايا المنطقية؟ من الذي يستطيع أن يقول: إن رأيًا لي أبديتُه اليوم سيأخذ به الزمن غدًا؟
الزمن وحده هو الذي يغربل الآراء وينخل الأحكام وينقي ميراث كل جيل ممَّا عسى أن يكون قد علق به من حواشي الحياة التي تتصادم فيها القوى أو تتساير، وتحترب أو تأتَلِف، وتجور فيها النفوس وقَلَّمَا تعدل، والمرء في حياته يقول ويعمل بقدر اجتهاده، وليس أحد بمطالَب أن يكون رأيه هو رأي الزمن، فإن هذا فوق مقدور البشر، وإنما يطالَب المرء بالإخلاص وصدق السريرة والاجتهاد، والاجتهاد فيه الخطأ والصواب، وليس المصيب بأولى بالتقدير والحمد من المخطئ؛ فإن الحمد على قدر الجهد والإخلاص فيه، فمن وفق فهو مشكور، وإلا فهو مشكور ومعذور.
وقد كنت في حياة شوقي لا أُحْجِمُ أن أبدي في شعره رأيي، وهو رأي استخلصته من درسي ليراعات الأمم، ولست أدَّعِي العصمة لنفسي، ولكن انتفاء العصمة لا يمنع أن يأخذ الإنسان برأي، ولو منع لتعطل الفكر وبطل الارتياء ووقفت الدنيا، وكان همي من النقد إفشاء الرأي الذي أعتنقه — بعرضه وتطبيقه — لا الإساءة إلى ذكرى شوقي، وقد صار تراثه هذا في يد الزمن، وعلى قدر ما يجد الزمن فيه من عناصر الاستحقاق للخلود يكون إبقاؤه عليه، وليس لنا الآن أن نسبق الزمن إلى حكمه، وما أكره أو يشق عليَّ أن أكون مخطئًا، وإن كنت أرجو أن أكون مصيبًا، وما كان بالهين على نفسي أن أعالج تصحيح رأي الناس في مذهب معين في الشعر يمثله شوقي، ولكن إخلاصي للأدب أعمق وأقوى من دواعي المجاملة لرجاله، وأخلق بمن يقسو على نفسه ولا يجاملها أن يكون أقل مجاملة لسواه، وما كان شوقي عندي شخصًا أناصبه، بل فكرة أقاومها أو مذهبًا أحاربه، وفي النضال تحمَى النفوس، وتطيش الأيدي، وتخرج عن الاتزان، فإذا كنت قد عنفت أحيانًا، وجئت باللفظ الحامي والكلمة الثقيلة، فليس أشد مني اليوم أسفًا على ذلك، وإني لأستغفر شوقي وابنيه، وأستغفر أنصار مذهبه من كل ما جمح به القلم وهو يجري بما أومن أنه واجبي للأدب، رحمه الله وعفا عنه وعنا.