يبدو لي من وجوهكم — أعني من ألوانها ومن النظارات التي على عيون الكثيرين منكم — إنكم من هواة القراءة أو على الأقل من هواة الكتب، ولست أرى فرقًا بين من يكنز المال أو يجمع طوابع البريد أو السجاد النفيس أو الخزف الثمين، وبين من يكلف بجمع الكتب، أو بقراءتها. والشره واحد وإن اختلفت مظاهره، وأنا أعرف ناسًا يجمح بهم هذا الهوى جماحًا عجيبًا، ومنهم من لا يتردد — في سبيل إرضاء هذه الشهوة — في أن يتلصص ويسرق، ولعلكم سمعتم بالأغنياء الذين يغافلون باعة الطوابع ويسرقونها، ولو شاء أن يشتريها لما أعجزه ذلك، على أن من هواة الكتب من يفعل شرًّا من هذا، ولي قريب ما دخل بيتي قط إلا سطا على كتاب. ومن غريب أمره أنه يحمل الكتاب ويمضي به، فإذا عاد ووجدني اشتريت نسخة أخرى منه، مد إليها يده، ودسها في جيبه أو تحت ثيابه، وخرج، وقد سرق مني ثلاث نسخ من الجزء الأول من ديوان ابن الرومي، وكانت تكفيه — لو عقل — نسخة واحدة، ولكن الأمر في هذا ليس أمر عقل، وأغرب من ذلك أنه يكدس هذه الكتب في صندوق ويخفيه في غرفة مظلمة منحدرة في الأرض في بيته، لا تدخلها الشمس ولا ينفد إليها الهواء، ولا يعيش فيها وينعم بالرطوبة والظلام إلا الجرذان والوطاويط والهوام. ومالي أمثل بقريبي وأنسى نفسي؟ كانت عندي منذ نحو خمس وعشرين سنة، ثلاث طبعات مختلفة من شعر شكسبير — الأولى في مجلد واحد، وحرفها دقيق جدًّا فهي لا تُقرأ، ولا أدري لماذا اشتريتها، والثانية في ثلاثة أجزاء وحرفها أكبر وقراءتها أيسر، ولكن ينقصها الشرح، ولم أكن أستغني عنه في ذلك الوقت، والثالثة في أجزاء كثيرة بعدد الروايات، وفي واحد منها أغاني شكسبير، وهي خير الطبعات وأصلحها، لوفاء الشرح والتعليق، فاتفق أن ذهبت إلى مكتبة «ديمر» وكانت في بناء فندق شبرد، وأخذت أقلب الكتب على عادتي وأنظر إليها وهي على رفوفها، وأشاور نفسي أيها أبتاع وأيها أترك — إلى حين؛ فوقعت عيني على كتيب صغير مجلد بالمخمل فيه أغاني شكسبير، فافتتنت به، ولجت بي الرغبة في الاستحواذ عليه، ولو شئت لاشتريته، ولو نسيئة إذا أعوزني المال، فإن صاحب الدكان وعماله يعرفونني، وأنا أنفق في دكانهم كل أول شهر أكثر مما أنفق على بيتي، غير أني لم أشتره بل دسسته في جيبي ثم خرجت به وبما ابتعت غيره، ولا أدري أرآني وتغاضى عامل المكتبة، كرمًا وتسامحًا، أم لم يرني، فلما صرت في الطريق خجلت، فوقفت مترددًا، ثم عدت فرددت الكتاب! ولعل منكم من يشك في صدقي، ولكني لست مضطرًّا أن أكذب، فقد مضى أكثر من ربع قرن على الحادثة، فلا خوف من النيابة والشرطة، وأظن صاحب المكتبة قد انتقل إلى عالم آخر فلا مجني عليه في دنيانا.
ولكن لا أقتني الكتب لأرصها وأزين بها داري بل لأقرأها، وهي عندى خير من الصديق والقريب، وأحب إلي من الزوجة والأبناء، وحسبي من بواعث الرضى عنها والإيثار لها أنها تعطيني ولا تأخذ إلا من وقتي الضائع على كل حال، والأمل فيها لا يخيب، والثقة بها لا تكون إلا في موضعها، ولا خوف من كذب أو خداع أو عذر أو نفاق، وقد تعلمك الخطأ ولكنها لا تفعل ذلك عامدة، وصداقتها لا تفتر، وودها لا يحول وإن مللتها وجفوتها واعتضت منها سواها. وللكتب شأن غير شأن «المودة» فليس كل جديد فيها بخير من كل قديم، ولا يكون للناس له — من أجل ذلك — أطلب، وفيه أرغب، وما عدت إلى كتاب قط إلا استعدت الخواطر والخوالج التي لا سبيل إلى استعادتها بغير هذه الوسيلة، فأتذكر الوجوه التي كنت أراها إذا أرفع عيني عن الكتاب، والمكان الذي كنت فيه، والجو والمناظر التي أحاطت بي، وما وقع في نفسي من الكتاب ومن ذلك كله، وفي هذا التذكر جمع لما يتفرق من شخصيتي ويتبعثر على الأيام، وينسى المرء الزمن، وتمحى السنون التي مضت وانقضت من لوح العمر، ويرتد المرء شابًّا كما كان، ويتحقق ما تمناه بعض الحكماء من أن يرجع شابًّا ومعه تجارب شيخوخته، وصحيح أن الشباب مزيته أنه ليس مثقلًا بعبء التجارب، وفضله أنه غرير يقدم، ويقبل، ويقتحم، ويتطلع، ويفيض أمله على الدنيا ويرقرقه في الحياة، لأن عباب الحيوية زاخر، وتيارها دافق، وسيلها العرم، ويغتر الحدث بذلك، ويتوهم أن الينبوع لا ينضب، ويحسب أن المنبع لا يشح، ويظن أن صلته به لا تنقطع واستمداده منه لا ينتهي، فينفق وينفق، حتى تذهب السكرة وتجيء الفكرة، فيحس الجفاف، ويدرك أن العين قد نشف، وأن الشيخوخة قد أدركته — أعني المرء لا العين — فيحتاج إلى التخييل، فلا يلقى كالكتب عونًا على ذلك، فإذا أقبل عليها وقف الزمن، بل ارتدت عقارب الساعة، ورجع هو بارتدادها يافعًا ينظر إلى الدنيا والحياة بعين جنية الإنسان.
ولكن هناك فرقًا بين تحصيل المرء في شبابه، وتحصيله في كهولته، وأنا اليوم أقرأ، ولعلي أعظم شرهًا مما كنت في صدر حياتي، غير أني أحكم عقلي، لا إحساسي، كما كنت أفعل، أيام كانت كل كلمة زهرة أو درة، وكنت أعب من جدول المعرفة الذي كان يغريني ولا يسخر مني، كما يسخر نهر الحياة، فأنا الآن أنظر إلى الجودة وأطلبها، وأقدر مبلغها، ولا أحفل الوقع الذي يكون للكتاب في النفس، ولست أستجيد ما كنت أغالي به في حداثتي من أمثال «آلام فرتر»، وهذا طبيعي، مع ارتفاع السن، واتساع أفق النفس، ونضج العقل، واعتياد الأناة في النظر والحكم. وفي وسعي أن أقول — وفي وسعكم أن تصدقوا — أني لا أهتز ولا أطرب الآن، ولا يستخفني شيء من الشعر أو النثر، ولا يقوى على إخراجي عن طوري كلام بالغًا ما بلغ من القوة والجمال، وكنت إذا أعجبتني أبيات من الشعر، دهورتها بلساني في شدقي، فالآن أتناول الديوان من شعر الشاعر فأعبره بعيني، وأنتقل من قصيدة إلى قصيدة، وأقلب صفحة بعد صفحة، وقد أتخطى صفحات أطويها جملة، ولا أكاد أقف عند شيء، أو أقرأ من القصيدة إلا بيتًا هنا وبيتًا هناك، وكلمة في أول الصفحة وجملة في آخرها، ولا يكاد يستوقفني شيء إلا إذا كان بالغًا غاية الإحكام ونهاية الجودة، وهيهات!
وبين تحصيل جيلنا، وتحصيل جيلكم، فرق كبير، فنحن كنا — وما زلنا — نقبل على الكتب جادين مصممين، أما جيلكم فيتناولها مستخفًّا وبأطراف البنان، وينشد اللهو وتزجية الفراغ والتسلي لا المعرفة والاطلاع، ونحن كنا نغرق في هذا البحر الزاخر إلى أذقاننا، وأنتم تقفون على الساحل تنظرون وتسخرون قانعين بثبات الأرض تحت أقدامكم، مستخفين بعقول الذين يلقون بأنفسهم في اللجة، وأضرب لكم مثلًا لجدنا ومثلًا لهزل جيلكم.
لما سرت على الدرب — أعني لما نهجت في القراءة نهجًا منظمًا، شرعت أدرس كتاب «الأغاني»، وهو على حلاوته طويل ممل، فكنت أجد فيه البيتين أو الثلاثة للشاعر، وكثيرًا ما يسقط المؤلف أبياتًا أخرى بينها، أو يوردها على خلاف ترتيبها في ديوان الشاعر، فقلت أرجع إلى دواوين الشعراء، فجمعت ما وسعني جمعه من ذلك، ومن ليس له ديوان مطبوع، اعتمدت في مراجعته على دار الكتب، فكنت لا أجد في كتاب الأغاني شعرًا إلا راجعته في ديوان الشاعر كلما تيسر ذلك، والذين يعرفون الأغاني، يعلمون أنه ما من صفحة فيه تخلو من الشعر، ولهذا آثرت أن تكون نسخة الأغاني التي عندي ورقًا غير مجلد، فوضعت بين كل صفحيتن ورقًا أبيض دونت فيه الأبيات التي اهتديت إلى أصولها منقولة عن دواوين أصحابها أو عن غير الأغاني من كتب الأدب، وكلما فرغت من جزء من الأغاني جلدته وفيه هذا الورق الذي كتبته في مواضعه.
ثم شاء الله أن أحتاج إلى بيع مكتبتي فكان الكتاب الذي ثمنه وهو جديد نصف جنيه يباع بخمسة قروش أو أقل، إلا نسختي من كتاب الأغاني، فقد كنت اشتريتها بمائة قرش وخمسة قروش (طبعة الساسي) فبعتها بسبعمائة وخمسين قرشًا، أي بسبعة أضعاف ثمنها، وقد قصصت عليكم ذلك لتعرفوا ماذا تجشمت في قراءة الأغاني.
ولما وقع في يدي كتاب «أصل الأنواع» لداروين، سهرت فيه الليل كله على وعورته وتعويصه، واستعصائه على مثلي، فلم أذهب إلى المدرسة في اليوم التالي، وكنت يومئذ طالبًا في مدرسة المعلمين العليا، وكان هذا الغياب يتكرر كلما صار في يدي كتاب جديد، فدعاني الناظر إليه، وكان المرحوم إسماعيل باشا حسنين، ونصح لي أن أواظب، وأعرب لي عن استعداده لمنحي أجازة خمسة عشر يومًا دفعة واحدة، على أن أثابر بعد ذلك وأواظب على الحضور؛ فشرحت له سبب الغياب، وبينت له أني لا أتخلف عن الدروس لألعب، فهز رأسه ولم يقل شيئًا، وتركني لرأيي.
أما الجيل الحاضر فلا أحسبه يجد في القراءة هذا الجد، ولست أعرف له صبرًا يستحق الذكر، على التحصيل، وإنك لتسأل أي صاحب مكتبة، فيقول لك أن الكتب الخفيفة تروج في مصر دون الأقطار الشرقية الأخرى، وأن الكتب الجدية تروج في هذه الأقطار دون مصر، ولا أظنكم تجهلون أن الحياة ليست هزلًا صرفًا ولا جدًّا بحتًا، وإنما هي مزيج من هذا وذاك، والذي لا يحسن أن يجد، لا يحسن أن يهزل، وفي وسع الإنسان أن يعبث ويلهو كما يشاء ويلعب ما استطاع من غير أن يهمل الجد أو يجور على وقته، ولست قدوة لأحد، وأني لآخر من يصح أن يُتخذ مثالًا يُحتذى، ولكني مع ذلك أذكر لكم أني استطعت أن أفرد للجد الصارم وقتًا كافيًا، وللهزل وقته بلا تقتير، فأنا أعمل كالثور الذي يدير الساقية، ولا أكاد أذوق للراحة طعمًا، حتى إذا فرغت من ذلك، وتشهدت، أرسلت نفسي على سجيتها، فضحكت ولهوت ولعبت كما لا تحسنون والله أن تفعلوا، لأني قسمت حياتي قسمة عادلة.
أما ماذا تقرأون؟ فمسألة يرجع الأمر فيها إلى الغايات، ولكني أوجز فأقول أن القاعدة هي الآداب. وليكن المرء طبيبًا أو مهندسًا أو سياسيًّا أو غير هذا وذاك. فإن الواجب أن يبدأ بالإطلاع على الأدب إطلاعًا كافيًا. لأن الأدب هو تفسير الإنسان للحياة، وهو يعمق النفس ويوسع الأفق، فلا غنى بأحد عنه، إلا إذا كان يريد أن يستغني عن فهم الحياة إلخ إلخ …
حاشية: هذه خلاصة المحاضرة، وأظن أني قلت كلامًا كثيرًا أجمل من هذا وأحلى وأحكم. ولكنى نسيته، فمن فاته من القراء شيء. فلا يلم إلا نفسه. فقد كان في وسعه أن يسمعني في ساعة الإلهام.