عرفت صديقي الأستاذ أحمد حسن الزيات بعد أن استقلت من العمل في وزارة المعارف ورجوت أن أنجو بنفسي من وخامة جوها، وكنت حينما استعفيت مدرسًّا بمدرسة دار العلوم للغة الإنجليزية! ومالي أنا أدرسها وهي ليست بلغتي؟ ومن تهكم الحوادث أني لما نقلت إليها مدرسًّا للغة الإنجليزية، أذاع الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الإسكندري هذا النبأ في طلبتها، وخبرهم أني أديب وشاعر وأثنى عليَّ، من كرم النفس ومروءة القلب، واتصل بي ذلك فأكبرته منه وشكرته له، وصار عجبي بعد ذلك أن يرحب الطلبة بأديب عربي، عمله وواجبه أن يعلمهم الإنجليزية! وكان نقلي إلى دار العلوم خدعة ونفيًا؛ جاءني يومًا زميل من أصدقائى. وكان وثيق الصلة بالرؤساء وأسر إليَّ أن الوزارة تتخير مدرسين للغة الإنجليزية في دار العلوم، وأنه رشحني، وأوصاني بكتمان هذا السر فإنه إذا ذاع كثرت المساعي والوساطات والشفاعات، إذ كانت دار العلوم تعد أرقى من المدارس الثانوية، وحظ المدرس فيها من الترقية أعظم، فصدقت هذا الكلام وصنت السر شهرين كاملين على صعوبة ذلك، وتلقيت أمر النقل في بيتي ومعه رجاء من ناظر المدرسة الخديوية — وكان إنجليزيًّا — أن أذهب إليه. فسألني:
«هل كنت تعلم بهذا؟»
قلت: «نعم، منذ شهرين».
قال: «وكتمته؟ إذن أنت راغب في النقل».
قلت: «لا أدري! ولكني أوهمت أن هذا خير لي».
وقصصت عليه الخبر، فهز رأسه وقال إنه ليس خيرًا لي، وأنه لو علم بذلك قبل أربع وعشرين ساعة لحال دونه.
وذهبت إلى دار العلوم، فرضيت عن الطلبة، ورضي الطلبة بي، ولم يرض عني الرؤساء، ولقيت منهم — على اختلافهم — عنتًا شديدًا لم يكن يخففه عني إلا رجلان كريمان هما الأستاذ الإسكندري والمرحوم سلطان بك محمد، وكان شر ما لقيته من المفتش الإنجليزي، وكان رجلًا ضخمًا هائل الأنحاء ذا لحية طويلة كثة، كانت يدي تهم — كلما قابلته — أن تعبث بها، فأردها بجهد وأدسها في جيب البنطلون لأحبسها وأقيدها، فكان يعد ذلك مني سوء أدب في حضرته أو قلة احترام له، ولو درى لغفر لي سوء أدبي، ولشكر لي أني أصد نفسي عما هو أدهى. وعظم البلاء لما جاء يومًا يفتش، فدخل عليَّ، وكنت جالسًا، فوقفت له ثم عدت إلى كرسيَّ فقعدت عليه، فلما انتهيت من الدرس خرجت معه، فذكر لي أني جلست وتركته واقفًا وإن هذا غير لائق، فقلت له:
فقلت له: «إن أساتذتي في مدرسة المعلمين، علموني أن المدرس في فرقته لا رأس أعلى من رأسه، ولا مقام أرفع من مقامه، وأن كل رؤسائه أعوان له لا خصوم، وأن عليهم أن يقووا ضعفه لا أن يضعفوا قوته، وأن تغيير المدرس عاداته أمام تلاميذه لمجيء مفتش أو دخول رئيس، يصغره في أعين الطلاب، وإن سلب المدرس كرسيه يحقره، وأنت مفتش ولا ينقصك أن يعرف الطلبة أنك رئيسي، وأنك تملك نفعي وضري، ولكني أنا المحتاج إلى التأييد، المفتقر إلى التقوية، المطالب بأن أحرص على كرامتي لأضمن احترام الطلاب لي، وإلا فشا الأمر عليَّ واضطرب النظام وتعذر التعليم».
قال: «هكذا؟» ومضى عني.
وكنت مكلفًا أن أعلم جماعة من الإنجليز اللغة العربية، وكنت أُعطى خمسة وعشرين قرشًا تجزية عن الدرس الواحد، فثقل عليَّ ذلك وأضجرني، فاستعفيت من هذا التكليف، واستعفى بعدي معلمون آخرون، فاتهمني المفتش الإنجليزي بأني حرضتهم على ذلك وأغريتهم به؛ فقلت:
«يا سيدي إن هؤلاء المعلمين منهم من كان أستاذًا لي، فلا يعقل أن أكون أنا محرضه. وإنما استعفيتكم لأن العمل شاق والأجر لا يستحق كل هذا العناء، ثم إن هذا التكليف المضني يسرق وقتي ويصرفني عن الآدب».
فلم يسمع مني.
وأصيب ساقي بكسر، فصرتُ أدخل بعدها على الطلبة متوكئًا على عصاي، فاتفق يومًا أن سمو الأمير محمد علي زار المدرسة، وفي حاشيته الوزير والمستر دنلوب المستشار يومئذ، وكبار الرؤساء في وزارة المعارف.
فلما حضرت إلى المدرسة في الصباح، استنكر الناظر أن أحضر في ثياب بيضاء، ولم أكن أعلم أن الأمير سيزور المدرسة في يومه هذا، فسألت الناظر:
«هل للتدريس ثياب معينة؟»
قال: «يا سيدي سمو الأمير محمد علي سيزور المدرسة اليوم! فأرجو أن تعود وتغير ثيابك».
قلت: «ليس عندى ثياب تليق باستقبال الأمراء، فالحل أن تدعني كما أنا، أو أن تمنحني أجازة».
فتركني محنقًا، وجاء الأمير ودخل عليَّ ووراءه هؤلاء جميعًا، وأخبره بعضهم أني مهيض الساق، فحنا عليَّ ولاطفني، ثم وقف المستر دنلوب معي يسألني عن تدريس اللغة الإنجليزية في دار العلوم، فقلت له أن رأيي أنه جهد ضائع، وأن تعليم هذه اللغة يجني على اللغة العربية ولا يفيد الطلاب جديدًا، فلم يقل المستشار شيئًا، ولكن المفتش الإنجليزي الضخم رجع إليَّ بعد انصراف الأمير وقال: «ما هذا الفضول؟»
قلت: «أي فضول؟»
قال: «ماذا يعني المستشار من رأيك في تعليم اللغة الإنجليزية؟»
قلت: «هذا شيء يُسأل عنه المستشار، وكل ما أعلمه أنه سألني فأجبت».
قال: «كيف تقول له هذا الكلام؟»
قلت: «لأنه رأيي الذي سألني عنه».
فألقى إليَّ نظرة لا أنساها، ومضى عني.
ويأبى سوء الحظ إلا أن يوقعني معه بعد ذلك وقعة سوداء، وكنت مقبلًا على المدرسة في الصباح — كالعادة — فوجدت الناظر على بابها، فصاح بي: «أين أنت؟»
قلت مستغربًا: «أين أنا؟ هنا!»
قال: «لقد بعثنا في طلبك».
قلت: «خيرًا إن شاء الله».
قال: «طلبك المستشار فاذهب إليه».
قلت: «على العين والرأس! ولكن لماذا كل هذه العجلة؟»
قال: «العجلة؟ العجلة؟ المستشار يطلبك يا أخي!»
قلت: «عرفت. وسمعًا وطاعة».
وهممت بالدخول؛ فمد ذراعه ليمنعني وقال:
«لماذا تدخل؟ اذهب».
قلت: «كيف أذهب الآن، وعليَّ ثلاثة دروس؟ بعد الفراغ منها أذهب».
قلت: «لا آخذها إلا كتابة، وإلا فشأنك مع المستشار، وأنا داخل لدروسي».
فكتب لي ورقة أعفاني فيها من الدروس في ذلك اليوم، فدسستها في جيبي ومضيت إلى ديوان الوزارة، والناظر يصيح بي أن أركب عربة، فلما صرت في الديوان وجدت رئيسًا كبيرًا فيه ينتظر على السلم فاستحثني بإشارة وانطلق يرقى في السلم بسرعة، وأنا أنظر إليه وأتمنى لو وسعني أن أفعل مثله، ولكني مهيض الساق، أجرها جرًّا، وصعدت إلى غرفة السكرتارية الملحقة بمكتب المستشار، فأجلسوني بها، ودخلوا عليه، ثم خرج إليَّ المفتش الإنجليزي الضخم، فمضى بي إلى غرفته الخاصة، وشرع يسألني عن مدرس إنجليزي كان من تلاميذي في اللغة العربية، فاعترضت وقلت له إن أستاذه الحالي أولى أن يُسأل عنه. فقال إن هذا ليس من شأني، وأن عليَّ أن أجيب.
قلت: «لا أجيب إلا إذا أُثبت اعتراضي، فإني أخشى أن أظلم الرجل».
ففعل؛ فأسأت الشهادة وقلت إنه لا يعرف العربية، وإنه لن يتعلمها، وإنه فوق ذلك لم يكن مواظبًا على حضور الدروس، ولم يكن سلوكه حين يحضرها محمودًا، وإني شكوته لرؤسائه، فزجروه على مسمع من زملائه.
ثم عاد المفتش بي، فدخل على المستشار وتركني أنتظر، فلما دُعيت سألني — أي المستشار —: «هل هذا رأيك؟»
قلت: «لا أدري!»
قال: «كيف لا تدري؟»
قلت: «لقد كان المستر … يسألني فأجيب، وكان هو يكتب، ولم يطلعني على ما كتب».
قال: «خذ وانظر».
فقرأت الورقة وقلت: «هو رأيي بأدق تعبير».
وانتهى الأمر عند هذا فخرجت، فحقدها عليَّ المفتش، وظن أني أعرِّض له أو أغمزه، وعلمت بعد ذلك أن المدرس الذي سألوني عنه كان يراد ترقيته مفتشًا للمدارس الابتدائية، فأنا قد أسأت إليه بهذه الشهادة إذا عبأوا بها.
وقد عرفت بعد أيام أن مستقبلي ضاع في هذه الوزارة، ذلك أني لقيت هذا المفتش اتفاقًا فسألني عن حالي، فاغتنمت الفرصة وسألته عن القاعدة التي تجري عليها الوزارة في ترقية الموظفين: أهي القدم أم ترى هي الكفاءة؟ أم ماذا؟ فإن كان القدم هو الذي يلاحظ، فأنا قد تخطاني من هم أحدث مني، وإن كانت الكفاءة فإن تقارير المفتشين لا تسوغ إهمالي. فقال:
«إنك غير راض على ما يظهر عن وزارة المعارف فماذا يمسكك؟ اتركها».
قلت: «إن الذي أعلمه هو أنك أنت غير راضٍ عني، ولهذا تشير عليَّ بترك الوزارة».
وقلت كلامًا آخر أملاه الغضب والطيش، وخرجت موقنًا أني أحمق، وأني أسأت إلى نفسي وجنيت عليها، وذهبت إلى دار من دور السينما في تلك الليلة فلقيت فيها زميلًا ترك الوزارة كما تركتها بعد ذلك، فسألني عن حالي، فقلت إنه شر حال، وقصصت عليه طرفًا مما وقع لي مع هذا المفتش.
فسألنى: «هل تقبل أن تعمل معنا في مدرستنا؟»
قلت: «لم يبق لي خيار — نعم أقبل».
وفي اليوم التالي تعاقدت مع المدرسة، ثم استقلت من الوزارة. وفي هذه المدرسة الحرة، عرفت الأستاذ الزيات، وقضيت معه فيها ثلاث سنوات لا ينغص حياتي ولا يسود عيشي مفتش إنجليزي ذو لحية طويلة.