كلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة، وكنت أظن أن إطالة الفكرة فيه رياضة حسنة عليه، وأن ذلك جدير بأن يصغر الدنيا في عيني، ويجعلني بالحياة أقل احتفالًا، فإذا الأمر على خلاف ذلك، والحال على نقيضه. وما أظن بغيري إلا أنه مثلي، وقد أقول لنفسي حين أخلو بها — وقلَّما أفعل هذا الآن: إن كون المرء يحيا ليموت ليس بالغاية أو النهاية التي يسكن إليها الحي ويطيب بها نفسًا، وما أشبه ما يفعل بنا هذا القدر الجاري علينا بما نصنعه نحن بخراف العيد؛ نسمنها لنذبحها آخر الأمر، وفرق ما بيننا وبين الخراف أن هذه تزداد لحمًا وشحمًا وأنَّا نزداد علمًا وفهمًا، ولا أدري من الذى قال إن الحياة مدرسة، ولكن الذي أدريه أنها أعجب المدارس وأخفاها — ولا أقول أقلها — حكمة؛ ذلك أن التعلم فيها يستمر إلى نهاية العمر، ولا سبيل إلى اختصار الأمر أو الاجتزاء ببعض العلم عن بعضه، لانتفاء الإرادة الشخصية، ولأن المدرسة هي الدنيا كلها، فلا خروج منها إلا بالخروج من عالم الأحياء، والعالم والجاهل سِيَّانِ، واللبيب كالغبي، والساعي في وزن القاعد، والمصير واحد، والمآل لا يختلف، وكل من في هذه المدرسة العجيبة يتلقَّى علومه الخاصة التي لا تشبه دروس غيره، ولا ترى أحدًا يسأله هل حذق الدرس أم أهمله ونَسِيَهُ؟ وكل واحد عالم وجاهل في آنٍ معًا، يعرف ما أتيح له أن يعرف، ويجهل ما عدا ذلك أجمعه. وقَلَّ أن ينتفع أحد بما تعلَّم في حياته لأنه يدفن معه في قبره، ويلف عليه وعلى تجاربه ومعارفه كفن واحد. وكم تساءلت — وأنا أتدبر هذا كله — عن الحكمة في تضييع ما أفاد الإنسان في حياته من العلم والخبرة؛ ذلك أن كل ما حصَّل في حياته يموت معه، وسبيل إلى استنقاذ التجاريب والمعارف والانتفاع بها بعد أن يقضي صاحبها نحبه ويستوفي أجله، فهل هذه يا ترى خسارة تصيب الإنسانية كلما مات منها فرد، أم لا خسارة هناك عليها ولا ضير؟ من يدري؟
وسهل أن يفهم المرء أن يخلق ليحيا، ولكن العسير أن تجعله يفهم أنه يخلق للممات. فلماذا يكون هذا هكذا؟ وإذا صح أن الحياة مدرسة، أفلا يكون الأصدق والأشبه بالواقع أن نقول إن غايتها تدريب الأحياء على الموت وإعدادهم له؛ ذلك أن الإنسان يموت منه كل يوم شيء، وشجرته لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثر أخرى، حتى تصوِّح وتعطب، وانظر ما يفعل الزمن بآمالنا ورغائبنا ومساعينا وبأجسامنا ونفوسنا؟ والآمال يدركها الحين، والشباب يذهب، والصباحة يغيض ماؤها، والنشاط ينضب معينه، والشعر الأسود يبيض، والقوة تسترق، والقناة المعتدلة تتقوَّس، والسمع يثقل، والنظر يضعف، والشهوات تفتر، والعجز يدب دبيبه شيئًا فشيئًا؛ حتى يوافي الأجل فيكون كل هذا تمهيدًا له تتدرب به النفوس على السكون إلى الموت، حتى كر الأيام إيذان مستمر بالموت الزاحف، وليس يسع الإنسان حين يتأمل ذلك إلا أن يشعر أن كل يوم يعيشه هو يوم يموته، والواقع أن الإنسان في يومه غير ما كان في أمسه؛ لأن الحياة قائمة على التحول، أو هي دائرة على الموت إذا شئت، ولا سبيل فيها إلى بقاء شيء أو ركود حال، وكل ساعة تمضي علينا تمضي بشيء مِنَّا، أو على الأصح بصورة من صور وجودنا، وحالة من حالات نفوسنا وأجسامنا، وكون المرء يتغير معناه أنه يذهب ويجيء غيره، ويموت ثم يُخلق خلقًا آخر، ولكن سرعة التعاقب في الخلق تجعل الصورة الجديدة مولدة من القديمة الفانية وشبيهة بها شبهًا يخفي وجوه الاختلاط. والذي يديم النظر في المرآة لا يفطن إلى التغير الذي حدث، ولكن الذي يبعد عهده بالمرايا لا يسعه إلا أن يرى أن صورته قد تغيرت، وحالت عمَّا كان يعرف.
فالموت يعيث فينا نهارًا وليلًا. وصباحًا ومساءً، وكل إحساس أو رأي أو اعتقاد لنا يتغير، هو ضرب من الموت يدركنا، والشيخوخة والأمراض وما يصيبنا من خيبة في آمالنا أو إخفاق في مساعينا رياضة لنا على ما نحن سائرون إليه من المآل. وقد أتساءل أحيانًا عن معنى حياة مجهولة للموت ودائرة عليه ومتسربة فيه في كل حالة ومظهر؟ ولا جواب هناك أعرفه لسؤالي، وقد يئست من إمكان الاهتداء حتى لم أعد أحفل لا الحياة ولا الموت، أو أبالي كيف أكون في يومي، وماذا يكون من أمري في غدي. وهل الإنسان إلا مقبرة متحركة؟ بل أنا أبالي — كما قدَّمت في مستهل هذه الكلمة — ولكني أغالط نفسي، وأصرِفُهَا عن النظر إلى هذا الجانب الأسود، وألهيها وأسليها بما أستطيع أن أريقه على جوانب العيش من ضوء يردُّها مشرِقَة ضاحكة. ومن هنا نشداني للفكاهة وحرصى على الوقوع عليها. ومتى تساوى الحزن والفرح، وتعادل الغضب والرضى، وكان الاهتداء في وزن الحيرة والضلال، وصار البكاء والضحك سِيَّيْنِ، فالضحك أولى إذا قدرت عليه، والدنيا مأتم، فما أحقنا بأن نسر الناس، أو نسري عنهم، أو نذهلهم لحظات عن تنغيص حياة مبطَّنة بالموت، وذلك يتطلب الإرادة، ولكن الإرادة تكتسب.