من العيوب الملحوظة في الخُلُق المصري ما يمكن أن نسميه «النفخة الكذابة»، ومرجعها — في مرد أمرها — إلى ما ورثناه من عهود الاستبداد الطويلة التي مُنِيَتْ بها البلاد حِقَبًا مديدة، وقد فطن إليها ونبَّه عليها المرحوم «الكواكبي» في كتابه القَيِّم «طبائع الاستبداد»، ومن أمثلة ذلك أني ركبت القطار من الإسكندرية في الدرجة الأولى مع صديقين لي، فدخلنا «ديوانًا» لم يكن فيه سوى راكب واحد، ليس معه لا حقيبة ولا عصا، فبدا على وجهه الامتعاض الشديد، وجعل ينظر إلينا نظرة الكره والسخط، ثم يحول عنا وجهه المعبس، وهو يتأفَّف وينفخ، فلم يسعنا إلا أن ننظر إليه مستغربين ما بدا لنا من نفرته منَّا ونقمته علينا، وخفت أنا أن نكون غلطنا فدخلنا ديوانًا «محجوزًا» له خاصة، فسألت موظف القطار فنفى ذلك، وبعد برهة نادى صاحبنا الموظف وأَسَرَّ إليه شيئًا، فخرج ثم عاد ينبئه أنه وجد ديوانًا آخر فارغًا ودعاه أن ينتقل إليه، فنهض وهو يتنفس الصعداء ويتشهد! فالتفت إليَّ أحد صاحبيَّ — وكان إنجليزيًّا — وسألني عن هذا الرجل ما خطبه؟ قلت: «لا أعلم، ولكن الظاهر أنه شق عليه أن نعكر عليه بوجودنا صفو وحدته». فقال: «إن الديوان مجعول لركوب ستة لا واحد، فإذا كان يأنف أن يجالس الناس، فقد كان عليه أن يستأجر الديوان كله، أو أن يسافر بالسيارة». وعلمنا بعد ذلك أن هذا الرجل مفتش ري.
هذا مثال للنفخة التي تصيب الواحد مِنَّا لغير سبب يدعو إليها، وشاهداي على صحة الرواية والدقة والأمانة فيها الكابتن وودروف من ضباط المدفعية البريطانية، والأستاذ زكي أفندي عبد القادر المحرر بجريدة الشعب. وليس من حق أي منصب في الحكومة، ولا منصب الوزارة نفسها، أن ينفخ المرء على هذا النحو، أو أن يحمله على الاعتقاد أنه قد صار من طينة أخرى غير طينة الناس، وللمرحوم الزهاوي في قيمة الناس بيتان قويان صادقان، ولكنهما ليسا ممَّا يُروى، وكفى بهذه الإشارة إليهما دلالة على معناهما.
وقد ذكرت ما كان من هذا الموظف حين سمعت أن الوزارة — أو وزارة المعارف — أو لا أدري أيهما، تفكر في إنشاء مدرسة لأبناء الخاصة والوجوه والأعيان، على مثال مدرستي هارو وإيتون في إنجلترا، وقالوا في تسويغ ذلك إنه كانت في مصر مدرسة للأنجال على عهد بعض الخديوين، وإنها ألغيت فحلت محلها — إلى حَدٍّ ما — المدرسة الناصرية إلى آخر ذلك.
ومؤدى هذا أن المراد خلق طبقة أرستقراطية كاذبة، في بلد حاجته شديدة إلى تقرير الروح الديمقراطية الصحيحة في نفوس أبنائه، وتطهيرها من النقائص التي ورثتها من عصور الاستبداد الماضية.
ومن الخطأ أن يظن أحد أن إيتون وهارو من مفاخر المعاهد العلمية في إنجلترا، فما يتوهم هذا إلا مَن لا يدري شيئًا عن الحياة والتعليم في إنجلترا. أما المدرسة الناصرية المصرية فما كانت — في العهد الذي يشيرون إليه — معهدًا للتعليم والتربية، وإنما كانت معهدًا للتدليل، وهذا ما يعرفه ولا ينكره أهل الجِد من رجال التعليم. وأذكر أنَّا — ونحن طلبة في مدرسة المعلمين العليا — كنا نذهب مرة في الأسبوع إلى إحدى المدارس لنتدرب على التعليم، فاتفق أن ذهبنا مرة إلى المدرسة الناصرية لهذا الغرض، وكان عليَّ أن أعطي درسًا في الإنشاء الشفوي باللغة الإنجليزية، ولكن التلاميذ ائتمروا بي، واتفقوا فيما بينهم على التزام الصمت، فأعياني أن أحمل واحدًا منهم على فتح فمه والنطق بكلمة واحدة، وكان معي أستاذنا في التربية العملية، وأظنه كان المستر هبارد أو لعله كان المرحوم المستر سيمذارد، فتدخل في الأمر وحاول هو أن ينطقهم فعجز، وذهبوا هم يتبادلون نظرات الشماتة وابتسامات السخر، فغضب الأستاذ وخرج بي من الفرقة، وحادث مدرسها الأصيل في أمر عقابهم، ولكن المدرس أظهر نفوره من ذلك وأحاله على الناظر، ولم يصنع الناظر شيئًا سوى أن ابتسم ثم أخذ يلقي علينا محاضرة يبين فيها مزية الرفق واللين في معاملة التلاميذ، فانصرفنا يائسين، وأخرجنا «معهد التدليل» من عداد المدارس التي كنا نتدرَّب فيها.
الواقع أن إنشاء هذه المدرسة الخاصة لا مُسَوِّغَ له ولا حكمة، وهو تمييز يضر ولا ينفع، والمسألة لا تخرج عن أحد فرضين: فإمَّا أن يكون الأسلوب الجديد الذي يريدون أن يُجْرُوا هذه المدرسة عليه أصلح وأجدى من الأسلوب المتبع في المدارس الأخرى، وحينئذٍ يجب الأخذ به في كل مدرسة لا قصره على واحدة فقط، فإن لم يكن الأمر كذلك، فهو لا داعي له إذن ولا موجب لإنشاء هذه المدرسة.
ولا ينبغي تمييز أبناء الأعيان أو الأغنياء، على أبناء الطبقات الأخرى، وليس ينقص مصر تكثير للبواعث على الغرور والغطرسة والنفخة الكذابة، وإنما ينقصها جيل من الرجال الأكفاء للحياة القادرين على النهوض بالأعباء والاضطلاع بالتبعات فيها، والمطيقين لاحتمال ما تجيء به الأيام، وتَلَقِّي مطالب العيش بالعزم والجلد والإقدام.
وليثق ولاة الأمر في وزارة المعارف أن المدارس الخاصة التي يريدون أن يحتذوا مثالها، لا تعلم شيئًا، ولا تقوي الرجولة، ولا تنمي الملكات والمواهب، وإنما تفعل خلاف ذلك؛ أي إنها تخرج طبقة من المدلَّلين المخنثين الفاترين المغرورين الذين يتوهمون أن الدنيا كلها ملاعب كرة وما إليها، وأن الحياة ليست أجل من مباراة في التنس، وأنه ليس عليهم بعد أن يفرغوا من ذلك إلا أن يلبسوا ثوبًا أنيقًا، ويُظهروا وجوهًا صبيحة، ويمشوا متخطرين متخلعين، ويجلسوا متنطعين، ويتكلموا بألسنة معوجة، وعلى الناس أن يفسحوا لهم، وعلى الحظ نفسه أن يمالئهم؛ فإنهم خريجو المدرسة الخاصة وقد أَدَّوُا الثمن ودفعوا الأجر، واستحقوا بذلك أن تظل الدنيا تدللهم إلى آخر العمر.