منذ بضع سنوات — عشر أو عشرين أو نحو ذلك — كان من المألوف في حفلات الزواج أن يرى المرء — في فترة استراحة المغنين — رجلًا ممن يُسَمَّوْنَ «أولاد البلد»، ينهض ويصفق، فيلتفت إليه المدعوُّون، ويعرفون من وجهه لماذا وقف؟ وماذا يبغي؟ وإذا برجل يبرز له في ناحية أخرى من السرادق، ويروح الرجلان يتساجلان؛ أي يتبادلان النكات أو ما كان القوم يسمونه «التأليث».
وكان لهذا «التأليث» خصائص، فهو — أولًا — محفوظ لا ارتجال فيه ولا عمل للبديهة أو الخاطر، ثم هو — ثانيًا — يدور على المسائل الجنسية بأصرح لفظ وأخشن عبارة، وهو — ثالثًا — لا يعدو بابًا معينًا يتفق المتساجلان عليه مثل النجارة أو البرادة أو الزراعة، فكل نكتة تلقى يجب أن يكون قوامها لفظًا له صلة بالحرفة التي وقع عليها الاختيار، ومعنى هذا أن النكات لفظية.
وكان الناس — أو سوادهم — يضحكهم هذا «التأليث» ويسرهم ويرضيهم، وكانوا لا يجدون فيه منافاة للذوق، وإن كان معروفًا أن النكات محفوظة، وأن ألفاظها خشنة صريحة، وأن موضوعها ليس مما يليق الخوض فيه وتناوله على هذا النحو البذيء.
وقد تغير هذا كله الآن، وذهب زمانه، فليس مِمَّا تقبله الجماعة المصرية — كائنة ما كانت طبقتها — أن تُجرى مساجلة من هذا القبيل أمامها وعلى مسمع منها، وقد صار المصريون — حتى العوام منهم — يسترذلون هذا الضرب المنحط من الفكاهة، ويستثقلون النكات المحفوظة، ويتقون ما يدور منها على المسائل الجنسية، إلا في مجالس السُّكْرِ والعربدة، وليس لهذه ضابط، ولا هي ممَّا يصح أن تُتَّخَذَ مقياسًا للروح العامة، ولا تزال الفكاهة اللفظية شائعة، ولكن الجمهور صار يُقَدِّرُ الفكاهة المعنوية ولا يبخسها حقها.
والمصري مطبوع على الفكاهة، وهو من أقدر خلق الله عليها، وأشدهم ولعًا بها، وأدقهم فهمًا لها وفطنة، ولعل الفكاهة أدق ما تقاس به حالة الأمة ومبلغها من الرقي أو الانحطاط، ولا شك أن الفكاهة في مصر تطورت، وانتقلت من حال إلى حال، وسنعود إلى هذا الموضوع في كلمات أخرى.