هل تكون الحياة أطيب وأرغد، أو أحلى وأمتع، لو كان الإنسان أوفى؟ سؤال لا سبيل — فيما أرى — إلى الجواب عنه إلا بسؤال آخر هو: هل في الوسع أن يكون الإنسان وفيًّا؟ وبعبارة أخرى: هل هو مفطور على الوفاء؟
والحاجة إلى الإجابة بسؤال — أو إلى التمهيد للإجابة بسؤال — مدعاتها أنه لا خير في افتراض المستحيل، وأن من العبث إضاعة الوقت — أي العمر — فيما يؤدي إلى غير شيء. وإذا كنت أعجب بشيء فإن أكبر عجبي من أن الإنسان يشكو قصر العمر والضيق في فسحة الأجل، وهو مع ذلك يحلو له أن يضيع هذا العمر القصير، وأن ينفقه — بل يبدده — فيما لا طائل تحته ولا أمل في محصول وراءه، ولعل أحلى ما يستحلي من أيام حياته، ويذكره فيما بعدُ بالحنين والرقة، هو ما يبعثره على هذا النحو، حتى ليخيل إليَّ أن الإنسان — لإيقانه بأن العمر ضائع — ضائع، يجب أن يكون له يد في تضييعه. وحب الحياة يغري بإفنائها وإتلافها كما يغري بالضن بها والحرص عليها، وليس كل الإسراف في المال وحده، وفي الأغنياء الكز المقتر، والمسرف المبدِّد، وكلاهما يحب المال، أما الإسراف والبخل فمظهران ليس إلا … ومن العشق ما يدفع إلى القتل — قتل النفس أو قتل المعشوق — ومنه ما يحمل على النظر إلى المحبوب كأنه غلائل ورد تذوي إذا انطبقت عليها كف.
ولا أتردد في جواب السؤال، فهو عندي «لا» بالخط الكبير، أعني أنه لا وفاء للإنسان، وأنه لم يطبع على ذلك، وقد يحسب القارئ أن ممَّا يعيب الإنسان ألَّا يكون في طباعه هذا الوفاء المزعوم، ولو أنه كلف نفسه مشقة التفكير لحظة وجيزة لأدرك أن الوفاء أكذوبة وأن الأمر لا يعدو أن يكون ضربًا من الرياضة للجماعة لتسكن إلى النظام وتتقي عواقب الفوضى؛ ذلك أن الفضائل كلها رياضة يحض عليها الناس عسى أن يكتسبوها بالتدرُّب، ويتطبعوا بها؛ فهي تكلُّف، وشيء يُستفاد بالمرانة والتعود، كما تنمو العضلات وتكتسب القوة بالألعاب. ومن هنا ترى الحث المتواصل على التحلي بالأخلاق الفاضلة والقوانين المجعولة لزجر الناس عمَّا في طباعهم، ولا ترى أحدًا يدعو الناس إلى رذيلة أو شر، وإنما كان هذا هكذا لأن الفضائل ليست أصلًا أو طباعًا في الإنسان، وإنما هي عارية، وعادة تُعتاد، فاكتسابها يتطلب الدعوة إليها، والحض عليها، وتحبيبها وتزيينها، ولكن هذا لا ضرورة إليه إذا كان الأمر أمر رذيلة أو شر؛ لأن الإنسان محمول بفطرته عليه، فهو أحوج إلى ما يكبحه عنه لا إلى ما يزينه له، وقد صدق أبو نواس حين قال في بيت له: «والخير عادة».
وندع التعميم إلى التخصيص فنقول إن الوفاء إفلاس نفسي، كما أن الثبات على رأي واحد في الحياة إفلاس عقلي، ولست أحمَد أو أذم شيئًا، وإنما أنا أصف حقيقة، والحياة تقوم على التحول، لا الثبات على حالة واحدة، ومعنى هذا أنها تركد وتأسن إذا لم تتحول، والركود فساد ينافي الحياة؛ لأن الحياة هي الحركة، والحركة تؤدي على التحول والتغير، والإنسان بعض الطبيعة، وحكمها يجرى عليه، وهو يتغير كل لحظة، وإن كان التغير لا يبدو للعين في أكثر الأحوال، وأخلاق الإنسان وإحساساته ونزعاته وميوله وآراؤه يعتريها هذا التغيير كما يعتري جسمه؛ لأنها نتيجة ما يحدث في جسمه، وليست بأشياء مادية مرصوصة على رفوفها في نفس المرء، وإنما هي بعض ما تؤدي إليه الحركات الحادثة في الجسم.
والنظام خير للجماعة وأصلح لها، والجماعات الفاضلة أقرب الجماعات إلى النظام؛ لأن الفضيلة هي وسيلة النظام وأداته، ولا سبيل إلى التعاون المُجْدِي إلا بالنظام، والتعاون قوة، والقوة هي المطلب في هذه الحياة للفرد والجماعة كذلك — كما بينت من قبلُ — وبعض الناس يتوهم أن المطلب هو السعادة، وهذا خطأ كما أسلفت؛ فلا حاجة إلى الإعادة، والإنسان ينشد القوة من كل طريق، من طريق الراحة، ومن طريق التعب، ومن طريق اللذة والألم، ومن طريق التجربة والمعاناة، أو النجاة والسلامة إلى آخر ذلك. وطيب الحياة وحلاوتها أو مرارتها وسوءها يكون تبعًا لما يبلغ الإنسان فيها من مراتب القوة. وهذا جواب السؤال الأول.
ومؤدَّى هذا أن الواجب رياضة الإنسان والجماعة على الأخلاق الفاضلة، لا الاعتماد على الفطرة، لئلا يفسد الأمر.