ضع يدك على عاتق من تشاء واسأله: «ما مطلبك في الحياة؟» يقل لك تسعة وتسعون من كل مائة تلقى إن المطلب هو «السعادة». ولا أدري ماذا عسى أن يكون جواب المتمِّم للمائة، ولكني أحسبه خليقًا أن يحوم حول ذلك ويجيء بسبيل منه. والسعادة — عندهم — هي المال والصحة والتوفيق في المساعي، فإلَّا تكن هذه، فهي الرضى والاطمئنان والسلامة، وقد تكون عند آخرين الاستغناء والقدرة على التجرد، ولكن هذه وسائل لا غايات، والمال لا يُطلَب لذاته، بل لما يفيده ويعين عليه ويمكن منه، والصحة مثله، والاستغناء هو الاقتدار على مقاومة إلحاح الرغبة ولجاجة الشعور بالحاجة، وكل ما يوصف من حالات السعادة ليست إلا وصفًا لحالات القوة؛ ذلك أن السعادة — فيما يرى الناس — هي الفوز بالمشتهى والنجاة من المخوف أو المرهوب، وتلك عُلْيَا مراتب القوة.
أريد أن أقول إن السعادة وهم، وإن الإنسان يغالط نفسه حتى يزعم أنه ينشدها ويجرى وراءها، وإنما يطلب الإنسان القوة وهو يحسب أنه يطلب سواها، وليس للسعادة أي معنى أو صورة في نفسه، وإنما الذي في نفسه هو صور شتى لحالات القوة، وما من إنسان إلا وهو يأنس من نفسه ضعفًا في ناحية من النواحي، وبعضُ ما يخفيه ويستره مواطن ضعفه أدهى وأشد عليه ممَّا لا يرى بأسًا أن يبديه ويعالن به، وهو أعظم عناية بما يكتم منه بما يظهر، ولو أنه استطاع أن يداوي الظاهر من علته لما عبأ بذلك شيئًا ولا أفاده هذا ارتياحًا أو رِضًى؛ فإن همه المحجوب لا البادي من ضعفه، والقوة التي يلتمسها هي القوة التي تعوض ما يعرف — ويخفي — من الضعف المستور.
قد يقال: ولكن الاستغناء والتجرد حالة سلبية! فأقول إنها لكذلك، ولكنها تتطلب من القوة مثل ما يتطلبه السعي والإفادة، بل فوق ذلك؛ لأن الذي يريد أن يستغني ويزهد يحتاج إلى رياضة، ورياضة النفس على التجرُّد أشق من طلب الشيء؛ لأن الطلب عمل يوافق سُنَّةَ الطبيعة ويجري في مجاريها، ومعقول أن يحس المرء برغبة فيسعى لرضائها، ولكن الزهادة قمع للرغبات الطبيعية، والسير ضد الريح أصعب من السير معها، والانقياد لها أسهل من مقاومتها ومغالبتها، والمغالبة تحتاج إلى قوة فوق ما يكفي للمسايرة.