العقل لا يستطيع أن يؤمن بالخرافات أو يركن إليها، ولكن الإنسان لا يحيا بعقله وحده، بل بغرائزه وعاداته وأعصابه أيضًا — بل هو يعيش بهذه أكثر مما يعيش بالعقل، فأنا مثلًا أدرك بعقلي أن الموت لا دافع له، وأن المنايا — كما يقول الشاعر — خبط عشواء، وأنه لا ضابط هناك لهذا المصير، وأنه خير للإنسان ألا يعرف متى يحين حينه، وأنه لا معنى للفزع أو الجزع من الموت، وأنه لا جدوى من هذا الفزع أو الجزع حتى لو كان له معنى، وأن الواجب أن يترك المرء هذا الأمر للمقادير ويريح نفسه من عبث التفكير فيه، وعنائه الباطل، ولكني مع ذلك أراني حين أغمض عيني لأنام، أقرأ الفاتحة أولًا لموتاي، ثم أقرأ آية الكرسي ليحفظني الله، ويرعاني في منامي؛ ثم أقرأ آيات أخرى من الكتاب الكريم ويقول لي عقلي إنها لم تنزل لتحفظ أحدًا أو تقيه الموت، ولو كانت تقي أحدًا هذا المآل لوقت النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن عقلي لاقيمة له، ولا اعتداد به ولا معول عليه. وما أكثر ما أضحك من نفسي، ولشد ما أستحمقها وأستسخفها، غير أن لساني مع ذلك يأبى في كل ليلة إلا أن يدهور في شدقي هذه الآيات الكريمة. وإن تلاوة القرآن الكريم لخير، ولكن القرآن لم يجعل لوقاية المرء من الأسواء، ولا لدفع الردى عنه، وإنما هو تشريع وتهذيب. غير أن جدتي — لأبي — عودتني، وأنا طفل، أن أفعل ذلك كل ليلة قبل النوم، وكانت مشغوفة بي، ملهوفة عليَّ. وقد شببت عن الطوق جدًّا، وماتت جدتي، وكبر عقلي، ولكن العادة بقيت على الرغم مما أفادني التعليم والاطلاع والنظر والتجربة الطويلة.
وما أكثر ما أقول لنفسي إني أراني كحمار جدي، فقد كان له أعزكم الله حمار كان — أعني جدي لا الحمار — عالمًا من علماء الأزهر. فكان يركبه في كل صباح — أو كل فجر إذا أردتم الدقة — إلى مسجد الحسين، حيث كان يلقي درسه ثم يعود فيركب بعد الفراغ من دروسه وصلواته إلى البيت. فاعتاد الحمار ذلك وألفه وصار يعرف الطريق وحده، ولا يحتاج إلى يد تلوي اللجام إلى اليمين أو إلى اليسار. وألف جدي كذلك أن يمتطي حماره ويقول باسم الله ويمد يده إلى صدره — تحت القفطان — فيخرج الغيبرة — أي ملزمة أو ورقات من الكتاب الذي يدرسه — ويروح يقرأ والحمار سائر على مهل لا يخطئ الطريق أو يحيد عنه إلى سواه حتى يبلغ جدي المسجد فيقف — أي الحمار — فيتنبه جدي ويطوي الورقات ويدسها في عبه، ويترجل ويترك الحمار أمام باب المسجد بلا قيد، حتى يخرج فيجده حيث تركه، فيركبه مرة أخرى فينطلق به إلى البيت بسرعة لأن كليهما جاع. وقد رأيت جدي وحماره وتبعتهما وعاكستهما، أيضًا فقد كنت طفلًا وكنت في طفولتي كثير العبث. فأنا أذكر هذه الصورة ولا أنساها. ومن تهكم الأقدار أنها جعلت مني حمارًا لجدتي يفعل إلى اليوم بعد أربعين سنة ما عودته أن يفعل وهو طفل صغير. ولا أعلم ماذا كان حمار جدي يقول لنفسه وهو سائر بحكم العادة في طريق واحد لا يختلف أو يتغير فلست إلا حمارًا مجازيًّا، ولكن الذي أعلمه هو أن العادة تغلبني وإن كان عقلي ينكر ما أفعل.
واتفق أني كنت مرة في لندن ضيفًا على بعض من عرفتهم هناك، فكان مما قدم إلي في صباح يوم مع الشاى واللبن وغيرهما سمك فشرعت أشرب وآكل ثم تذكرت فجأة أن اليوم يوم الأربعاء، وأننا نقول في مصر إن من أكل سمكًا وشرب لبنًا في يوم أربعاء طار عقله وجن. وأعترف أني أشفقت من عواقب الجمع بين اللبن والسمك في ذلك اليوم، ولكن السمك كان طيب النكهة وأنا جائع والبرد شديد، واستحييت أن أذعن لقضاء الوهم وحكم الخرافة، فأكلت وأنا أعزي نفسي وأهون عليها بأن الجنون لا ينقصني، ولا أحتاج أن أقول أنه لم يصيبني سوء، وأنى مازلت سليم العقل ومع ذلك من يدري؟ أليس السكران هو الذي يتوهم أن الناس جميعًا سكارى ما عداه؟
وقد نشأت الخرافات بأنواعها التي لا يكاد يكون لها آخر من عناية الإنسان بما لا يفهم من حالات الحياة ووجوه العيش وهذا الكون المهول المجهول الذي يروعه ويحيره. والإنسان في هذه الدنيا يشبه الطفل الذي ألفى نفسه تائهًا في الظلام في غابة مخوفة، فكل ما يسمعه أو يحسه من الليل والغابة يتخذ الصورة التي ترسمها أوهامه، وتجسدها خيالاته، ويحدث أن يتفق أن يصدق التخمين ويصح الوهم، فيثبت هذا في ذهنه، ويبقى محفورًا فيه، على حين ينسى ما لم يصدق ولم يصح من الظنون والأباطيل التي دارت في نفسه، لأن هذه مرت وانتهى أمرها ولم تخلف أثرًا. أما ما يصدق فإنه يكون من الواقع، يدعو إلى الالتفات؛ ثم إن صحة الظن تدعو إلى رضى النفس من ناحية إرضاء الغرور، فيستطيع الإنسان أن يقول لإخوانه: «ألم أقل لكم؟» ويروح يباهي بذلك ويفخر. ويقع هذا من نفوس إخوانه، فيروح الواحد منهم يقول للآخرين «والله صحيح».
كل الخرافات مبعثها الجهل، وما وقع في نفس الإنسان من الرهبة والحيرة، وما أحسه من العجز والضعف أمام ألغاز الحياة والموت والحظوظ — سعيدها ونحسها — وما أدركه من وجود قوى خفية لا سلطان له عليها، وأسرار عويصة في الأرض والسماء لا يدري كيف يجلوها بعقله المحدود، وإدراكه القاصر.
ونحن نعرف الآن أنه ليس في الدنيا أسرار، وأعني بذلك أنه ما من سر إلا وله حل، وإذا كنا لم نهتد إليه إلى الآن، فإنا سنهتدي على الأيام بعد البحث الكافي. فقد اهتدينا إلى الأصول والقواعد العامة والمبادئ التي يمكن الاسترشاد بها في الوصول إلى المعارف التي تنقصنا، ووقفنا على ما فيه الكفاية لانتفاء الحيرة والرهبة والخوف والفزع من ظواهر الطبيعة وحالات الحياة ووقائع الدهر، وبقي الجهل، فنحن نعالجه بالنظر والتقصي والبحث بالوسائل التي جربناها وعرفنا جدواها في الوصول إلى المعارف التي اكتسبناها. ولكن الإنسان في فاتحة حياته العقلية كان أشبه بالطفل، وكان الأمر كله جديدًا عليه، وكانت ظلمة الخفاء شديدة راكدة، لا يخففها شعاع واحد من النور، وقد قلت مرة في حديث سابق أن الطفل يجتاز بسرعة، وفي سنوات قليلة، الأدوار التي قضت الإنسانية في اجتيازها دهورًا وحقبًا طويلات المدد، وأن تطور الطفل هو اختزال لتطور الإنسان في هذه الأدهار المتطاولة، فمن أراد أن يعرف كيف نشأت الخرافات التي حفلت بها حياة الإنسان، ولا تزال حافلة بها، فلينظر إلى الطفل وطريقة تفكيره وأسلوبه في استخلاص الحقائق من مشاهداته وتجاربه، وإلى اختلاط العقل بالإحساس، وإلى وقع الظلمة والنور، والوحدة والأنس، في نفسه. وإلى تأثير الألوان والصور والأشكال، وإلى ما يحدثه نوع المعاملة التي يلقاها من أبويه، ومن الناس في روحه، وفي تقديره للأمور، وفهمه للخطأ والصواب، والحميد والمعيب، والرشد والضلال، إلى آخر ذلك. والأعوام الأولى من حياة الطفل هي وقت التجارب وجمع الحقائق واستخلاص النتائج. وصحيح أن الإنسان لا يفرغ من التجريب والجمع والاستنتاج إلا حين تنتهي حياته فلا آخر لهذه الحقيقة، ولكني أعني أن الطفولة هي وقت التجارب الأولى؛ فالخطأ الناجم عن نقص التجربة، وقلة الحقائق التي نبني عليها النتائج، وعدم كفايتها — هذا الخطأ يكون أكثره في عهد الطفولة. وإنَّا لنخطئ كذلك من هذه الناحية، أي من نقص التجربة وعدم كفاية القواعد التي تقيم عليها النتائج، في شبابنا ورجولتنا وفي كل فترة على العموم من فترات الحياة طالت أم قصرت، ولكن الخطأ الساذج الذي يثير ضحكنا أو ابتسامنا يكون أكثره في الطفولة. وكذلك كان حال الإنسان في بداية حياته العقلية. وكل تلميذ يعرف الآن أن الكون وحدة، وأن قوانين الوجود وسنن الحياة، ثابتة لا يلحقها تبديل أو يطرأ عليها تغيير، ويدرك علاقة السبب بسببه، وأن كل حقيقة [مرهونة] بما سبقها، ولها أثر فيما يتلوها، وأن النظام في هذا الكون شامل محيط مع الدقة والضبط والإحكام، وأن الطبيعة — كما يقول أرسطو — ليست كالرواية السخيفة الملأى بالحوادث التي لا ارتباط بينها، ولا صلة، وأنها لا تعمل وثبًا وقفزًا كالجدي المرح، وأنه ما من شيء يحدث إلا وله سبب كاف — أبناؤنا في المدارس يعرفون هذا الآن ولا يشق عليهم أن يفهموه إذا قلته وبينته لهم، ولكن الإنسان القديم لم يكن يعرفه لأن عقله كان قد بدأ يتفتح كعقل الطفل، ولم تكن له معارف كافية أو تجارب وافية، فكان تخليطه كثيرًا، كتخليط الطفل وكان يضم المتفرق، ويجمع المختلف، ويقرن الشيء بالشيء ولا علاقة بينهما ولا صلة في الحقيقة، فكان يتفق مثلًا أن يرى في منامه أنه يضحك، ثم يستيقظ فيتفق أن يرى أن زوجته ماتت أو أحدًا غيرها من أهله أو عشيرته، فيبكي. وطبيعي أن يتذكر أنه كان منذ لحظة يضحك في منامه، وأن يقابل الحالة السارة التي كان فيها، بالحالة المحزنة التي صار إليها، فإذا اتفق أن حدث له هذا مرة أخرى أو حدث لسواه كما وقع له، ربط الحلم الذي بدا له في النوم، بالحقيقة التي رآها في اليقظة، واعتقد أن بين الرؤيا والواقع نوعًا من الصلة، فإذا رأى بعد ذلك ما يسره في الأحلام اضطرب وتوقع السوء.
وأذكر أني منذ أكثر من خمس وعشرين سنة قرأت فصلًا لكاتب إنجليزي غاب عني اسمه الآن — ولعله شارلز لام — ولكني غير واثق — تخيل فيه إنسانًا من الأقدمين احترق كوخه وكانت فيه خنازير له، احترقت أيضًا، فأقبل الرجل فألفى الكوخ كومًا من الرماد، فبكى، [وأقبل] على الكوم يتحسسه ليرى ماذا فعل الله بخنازيره، فوقعت يده على خنزير فلسعته حرارة جلده، فنزع يده بسرعة ورفعها إلى لسانه ليلحسها ويبردها، فأحس طعمًا جديدًا هو طعم اللحم المشوي الذي لا عهد له به. وعاد إلى الخنازير يبحث عنها فإنها كل ماله، فلسعته حرارة جلدها مرة أخرى، فأسرع بيده مرة أخرى إلى لسانه ليبرد النار التي كوته، فوجد ذلك الطعم الجديد اللذيذ، وهكذا تكرر اللسع واللحس وراقه الطعم فأقبل على لحم الخنزير يلمسه ثم يلحسه. وصار بعد ذلك كلما أراد أن يذوق هذا الطعم الذي أعجبه، يجيئ بالخنزير فيدسه في الكوخ ويحرقه عليه، ثم يقبل بعد ذلك على جلده يلمسه ويلحسه، وهكذا — في رأى الكاتب المازح — عرف الإنسان أكل الخنازير المشوية. وهذا كله تخيل جميل، ولكن وراءه حقيقة هي وصف طريقة الإنسان القديم في الاهتداء إلى الحقائق والمعارف، ولسنا نحتاج الآن إلى حرق الزرايب على الخراف لنأكل لحمها مشويًّا؛ فإنا أهدى من آبائنا سبيلًا وأرشد. ولكنا في طفولتنا لا نكون خيرًا من هذا الذي يحرق الكوخ ليلحس جلد خنزيره المشوي، وينعم بطعمه.
وأذكر أني في حداثتي كنت أرى أبي يجلس على الكنبة إلى جانب النافذة، ويشعل السيجارة، ويدخن، وكان يحلو لي أن أتبع الدخان المتلوى بعيني، وأتبع خياله على الجدار بأصبعي، واشتهيت أن أفعل كما رأيت أبي يفعل، ولم تكن عندي سجاير، فجئت بخرقة لففتها، وبرمتها، على هيئة السيجارة وأشعلت طرفها، لأرى الدخان الخارج منها الصاعد إلى فوق المتلوى في الهواء، وخياله على الجدار، ووضعت الخرقة المشتعلة على الوسادة وذهبت أمتع طرفي بهذا المنظر الذي كان يفتنني، فكانت النتيجة أن شبت النار في القطن، وكثر الدخان ففزعت وهربت ولم أنبه أحدًا، فقد كنت خائفًا وجلًا — خفت من النار وخفت من أبوي — فاندلعت النار بسرعة في البيت وامتدت إلى الغرف الأخرى، ولم تكن ثم في ذلك الوقت إدارة منظمة للمطافئ كالموجودة الآن، ولا كانت أنابيب الماء ممدودة إلى البيوت كما هو الحال في الوقت الحاضر، بل كان السقاء يمر بالقربة على ظهره ويفرغها في الزير القناوي، فإذا قلت لكم أن النار امتدت من بيتنا إلى بيوت الجيران، وأن الحارة كلها أصابتها نكبة، فصدقوني ولا تحسبوني أبالغ. ولست أرى فرقًا بين أن أحرق بيتًا — أو حارة على الأصح — لأتمتع بمنظر الدخان المتلوى في جو الغرفة وخياله المرتسم على الجدار، وبين أن يحرق ذلك الإنسان القديم كوخه على خنزيره لينعم بمذاق جلده المشوي.