أشرت في فصل إلى الوقت الذي تكون فيه النفس أحسن تَهَيُّؤًا للحب، وقلت إنه وقت الفتور الخفيف، لا النشاط ولا التعب الشديد. وقد رأيت أن كثيرين استغربوا هذا؛ فيحسن أن أبين ما أعني وأن أجلوه إذا استطعت، وخير وسيلة لذلك أن نضيق دائرة الاحتمالات وأن نسأل أنفسنا: في أية ساعة يا ترى من ساعات الليل أو النهار يكون المرء أقوى استعدادَ نفسٍ للحب؟ أيكون ذلك في الصباح حين ينهض المرء من النوم مستريحًا مجدَّد النفس موفور النشاط؟ أي على الريق؟ لا أظن! وأحسب أنه لو خطرت أمام المرء في هذه اللحظة أبرع الفتيات جمالًا، وأرشقهن قدًّا، وأسحرهن لحظًا، وأحلاهن ابتسامة، لما كان لجمالها من الواقع إلا أيسره، نعم يطرف المرء ويفرك عينيه ليستوثق من أنه ليس في حلم ولا يسعه بعد أن يوقن أن عينيه لم تخدعه إلا أن يعجب بالقَدِّ الرشيق والرونق البارع، وقد ينطق فيقول: «ما شاء الله! سبحان ربي الخالق!» ولكن الأمر يقف عند حد الإعجاب، أو قل إن السهم لا يستطيع أن ينفذ من اللحاف، وليس أحلى من أن يستطيع المرء أن يستأنف النوم بعد أن يستيقظ في البكور؛ فإن للنوم في هذه اللحظة إغراء لا أعرفه يكون له في ساعة أخرى، والرجل الذي يسعه أن يقاوم إغراء النوم في البكرة المطلولة لا أظن شيئًا آخر يُعجزه. والجسم في هذه الساعة يكون مستريحًا إلى تفتير الراحة؛ فيكون المرء مستيقظًا ولكن ينقصه النشاط الكافي والتَّنَبُّهُ التام، ومن هنا لا يُحدث الحسن أثره لأنه لا يلاقي وعيًا كاملًا.
أم ترى يكون الحب أسرع إلى النفس وأنفَذ إلى القلب حين يخرج المرء في الصباح؟ لا أظن أيضًا؛ فإن القوى تكون مجددة والنفس منتعشة، ومعنى هذا أن نشاط الإنسان جم وأن قدرته على المقاومة تامة؛ ففي وسع الإنسان أن يُعجب في هذه الساعة ما شاء من غير أن يقع في الشَّرَك أو يصاب في مقتل. والحب مرض، ومن الحقائق التي لا مكابرة فيها أنه كلما كان الجسم أصح كانت مقاومته للمرض أوفى وأكبر، وما من ساعة يكون فيها الجسم أوفر نشاطًا وأعظم استجمامًا ساعة الصباح، بعد راحة النوم العميق الكافي. ومن كان يعرف أن أحدًا أصيب بالحب في الفجر أو الصبح فليتفضل عليَّ بنبأ ذلك؛ فإن العلم به ينقصني. وقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ من شعراء العرب والإنجليز وغيرهم، واطَّلَعْتُ على ما وقع لي من التراجم والأخبار ومن قصص العشاق الصحيحة والكاذبة المختلقة؛ فلم أَرَ أن أحدًا أحب على الريق، فإذا كان هناك من اهتدى إلى غير ذلك فإنه يكون أحسن توفيقًا وأنا مستعد لتصديقه وتصحيح رأيي.
ولا أكاد أتصور أن يحب المرء وهو جائع ولا بعد أن تكتظ معدته بالطعام؛ فأما قبل أن يأكل فَلِأَنَّ إلحاح المعدة يشغله ويستغرق عنايته ولا يترك له بالًا إلى أمر آخر، وأما بعد الأكل فإن الامتلاء يصرف جهد الجسم إلى المعدة، أو إذا شئت فقل إنه يعدل المزاج فيشعر المرء أن كل شيء في الدنيا على ما يرام، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فلا تكون له رغبة ولا فيه استعداد لتغيير هذه الحالة وإبدالها بغيرها ممَّا لعلَّه مزعِجٌ أو نافٍ لهذا الشعور السَّارِّ الذي تسكن إليه النفس. وقد جربت — وأظن أن غيري جرَّب أيضًا — أن أسباب الخلاف والنزاع وخصوصًا بين الرجل وزوجته تفتر جدًّا، وكثيرًا ما تزول جملة بعد الأكل؛ لسببين: الأول أن الجسم يشغل بما حُشِيَ به وما صار أولى بجهده، والثاني أن الشعور بلذة الامتلاء — وهو شعور راجع إلى الحرص على الحياة — وما يفيده ذلك من الرضى والاغتباط لا يدعان محلًّا للعود إلى خلاف سخيف خليق أن يفسد هذا الشعور الجميل.
وأنا لا عالم ولا فيلسوف ولا شيء على الإطلاق مما يجري هذا المجرى، وإنما أتكلم بما أعرف وأعرف وأتحدث عمَّا جربت، والذي عرفته وجرَّبته هو أن المرء في الصباح يحس حصانة ومناعة — من الأمراض ومن الجمال — وقَلَّمَا يُعنى بأن يُتْبِعَ النظرةَ النظرةَ في هذا الوقت، ولو أن اليوم كله صباح لكان على الحب السلام، ولكن اليوم كله صباح مع الأسف، والمثل يقول: إذا أردت أن تطاع فمُرْ بما يستطاع. وما من أحد يستطيع أن يكون في الظهر كما يكون في الصباح، ولا في التاسعة صباحًا كما يكون في التاسعة مساء، في الصبح يكون قويًّا قادرًا على العمل كفؤًا لمقاومة المغريات؛ لأنه مستجم مستريح، فإذا جاء الظهر يكون قد تعب وشعر بالفتور بالحاجة إلى الراحة والطعام — أو الطعام والراحة — ويكون العمل قد هَدَّ منه وسرق من قوته، وسلب بعض ما ادَّخره للكفاح والنضال. ولكن الحاجة إلى الطعام تكون أقوى ما يحس وأَلَحَّ ما يدرك، فيصرفه ذلك عن كل ما عداه، ولا يبقى له هَمٌّ إلا أن يجلس إلى مائدة حافلة بما يُسكت هذه العصافير المزقزقة ويعفيه من ثقل الشعور بما يتلوَّى في جوفه. فإذا رأى جمالًا فبعيد جدًّا أن يحبه مهما بلغ من ظمأ النفس إلى الحب، وقد يشعر بالسرور وينشرح صدره ولكنه لا يتمهل في عدوه إلى البيت أو إلى حيث يكون الطعام الذي يطلبه ما لا سلطان له عليه، وأحسب أن كل ما تؤدي إليه رؤية الجمال في هذه الساعة هو أن السرور يزيد القدرة على التهام الطعام.
ويأكل المرء وينام ويستيقظ ويقوم متثاقلًا، وقد أصاب حظًّا من الراحة — لا كل ما يحتاج إليه — ويستحم أو يكتفي بغسل رأسه ووجهه، ولكن الثقلة لا تزايله؛ لأنه لم يستوفِ نصيبه العادل من الراحة، ولم يعوِّض كل ما أنفقه في يومه، فهو لا يزال متعبًا ولكنه تعب خفيف لا يشق على النفس ولا يبهظ الجسم احتماله، وهذا هو الوقت الخطر على ذى القلب الحساس، ويستوي أن يكون الوقت العصر أو نصف الليل؛ فإن المهم أن يكون الجسم متعبًا بعضَ التعب، وأن يكون تعبه بحيث لا يثقل عليه ولا يمنعه أن يخرج ويجالس الناس، ويشهد السينما، ويسهر مع الساهرين، ويلتمس المتع التي يلتمسها الناس في العادة بعد أن يفرغوا من أعمالم ويتخلوا لأنفسهم. والتعب الخفيف هو الخطر، وهذا لا وقت له على وجه التعيين، فقد يكون العصر وقته عندي في يوم والصباح وقته في يوم آخر، والتعب الخفيف هو فرصة الأمراض والحب؛ لأن المرء لا يفطن إليه ولا يباليه ولا يتحرَّز من عواقبه ولا يحاول أن يقاوم ما يهجم عليه في فترته، فكأنَّ المرء يؤخذ على غرة، وأهبته للكفاح والمقاومة غير تامة.
ولو عُنِيَ الإنسان بأن يدرس نفسه ويتدبر حالاتِهَا لوجد أنه لا يمكن مثلًا أن يفضي بسر له يحرص عليه وهو مستجم مستريح الجسم، وإنما يَبُثُّ نجواه ويقول بسره وشجوه حين يكون متعبًا قليلًا، كائنًا ما كان سبب التعب؛ فقد يكون ذلك من جراء العمل أو يكون بفعل الخمر أو يكون بعد المشي مسافة طويلة أو بعد جلسة يمتد زمنها، أو على أثر برد خفيف إلى آخر ذلك. وصاحب الجسم المستوفي نصيبه من الراحة لا يخطر له مثلًا أن يخوض بحثًا في نظام الكون، ويروح يجزم بما يدور في نفسه من الأوهام التي يحسبها حقائق لا تدفع؛ لأن صحة الجسم تساعد على إدراك القصور الإنساني، وإنما يفعل ذلك الذي به تَعَبٌ خفيف لا يحسه، ولا يعرف له وطأة. والتعب الخفيف يهيج شهوات الجسم كما يتيح لجراثيم الأمراض فرصة العبث، فيلقى المرء نفسه غير قادر كما ينبغي على المقاومة، ويحس أنه أصبح طوع الجواذب، فإذا عرضت عليه كأسًا لم يطل تمنعه، وقد تحدثه نفسه بأن ذلك ربما كان أجلب للنشاط، وينسى رد الفعل الذي يعقب هذا النشاط المجلوب. وإذا خايله الجمال تحركت نفسه كما لا يمكن أن تتحرك وهو موفور القوة أو شديد التعب، وإذا استطرد الحديث إلى ما وراء الطبيعة جازف بالآراء وقطع وجزم بلا تردد أو تلعثم، وليس ذلك من الثقة بالنفس ولا من طول التدبُّر والنظر وإنما هو من الفتور الحاصل الذي يغري بالكسل واتقاء عناء البحث الذي يزيد به التعب، والمرء في هذه الحالة لا يكسل وهو شاعر بكسله، ولا يتقي العناء وهو عارف بأنه يتَّقيه، وإنما يفعل ذلك بغريزته التي تدفعه من حيث يشعر ولا يشعر إلى وقاية نفسه والمحافظة عليها.
ومتى جاوز التعب — أعني الشعور به — الحد الذي يسهل احتماله ويهون الصبر عليه فقد استحال الحب؛ فالمتضور جوعًا والذي يرعد من البرد، والذي به مغص أو غيره من المزعجات والمنغصات، والذي يكاد يسقط من فرط الإعياء، والذي يغالبه النوم ويثني رأسه النعاس … إلخ إلخ، لا يمكن أن يجد الحب سبيلًا إلى قلبه قبل أن يزول ذلك عنه، وإذا اتفق أنه كان عاشقًا فإنه لا شك ينسى حبه وعشقه حتى يشفى أو يستريح أو يشبع، ومن كان لا يصدق فليجرب وليختبر نفسه. وفي وسـع كل إنسان أن يجعل باله إلى حالات نفسه في الصحة والمرض، وفي الجوع والشبع، وأن ينظر هل يكون له عقل يفكر في حبيب وهو جائع أو بردان أو متألِّم أو متهافت من النَّصَبِ.
والمرأة تدرك هذه الحقائق بغريزتها الذكية، فهي دليلي على صحة ما أقول، واسألوا أنفسكم متى ترون المرأة تُعْنَى بزينتها وعرض محاسنها على الرجل؟ فلن تجدوها تفعل ذلك في الوقت الذي تحس فيه أن الرجل مستجم مستريح أي قادر على مقاومة فتنتها، وإنما نراها تفعل ذلك وتلجأ إلى معونة الثياب المنسجمة على الجسم المبرِزة للمفاتن، وإلى المساحيق التي تؤكد الإشراق والنضرة في وقت التعب الخفيف لا في وقت النشاط التام ولا وقت التقوُّض والانهداد.
وأحسب أن من المفهوم أن كلامي هو: على المرأة حين تتصدى للرجل بحكم طبيعتها، لا عامدة ولا حين تخرج لعملها إذا كانت تعمل أو لقضاء حاجة لها؛ فما تستطيع إلا أن تتزين إلى حد ما تبرز للناس لأن طبيعتها تغريها بأن تحشد قوتها كلها وسلاحها أجمعه على سبيل الاستعداد للمنازلة، ولو كانت فرصتها بعيدة فإن الأمر بين الرجل والمرأة أمر حرب، هي تقاتله وتحاول أن تغلبه بالجمال وهو سلاحها، وهو يقاومها ويحاول أن يغلبها بقوته وجلده … إلخ، وقد يكون من غريب أمر هذه الحرب أن النصر فيها مُوَزَّعٌ، وأن الذي يبدو فيها ظافرًا كثيرًا ما يكون هو المهزوم، وأن الذي يتظاهر بالتسليم وإلقاء السلاح عسى أن يكون هو الغالب المنصور، بل الفريقان المقتتلان لا نصر لهما ولا هزيمة، وإنما النصر للحياة التي تسخرهما لغاياتها وتتخذ منهما أداة.
ولكن هذا استطراد فلنعد إلى سؤالنا، ولنتوسع فيه قليلًا، فهل يظن أحد أن من المصادفات البحتة أن المرأة لا تتزين في الأغلب إلا في العصر أو المساء أو الليل؟ إن ثياب المرأة للزينة، قبل أن تكون للمنفعة — وكذلك ثياب الرجل إلى حد كبير — ولكن الزينة مقدَّمة على المنفعة عند المرأة؛ لأن المرأة هي الشَّرَكُ الذي تنصبه الحياة للرجل، والزينة تؤكد الجمال وتبرزه، وهل يستطيع أحد أن يزعم أن هذه الثياب التي تلبسها المرأة لها أدنى نفع في وقاية أو ستر؟ ولكنها لا تُعْنَى بالزينة في الأوقات التي تقول لها غريزتها إنها تكون زيادة لا داعي لها ولا تأثير، مثل الصباح الباكر، أو قبل الظهر حين يكون الناس جياعًا، فإذا مال ميزان النهار الذي هو وقت العمل الطبيعي، وأحدث العمل اليومي أثره الذي لا بد منه، وأنتج السعي بالرزق أو غيره ذلك الفتور الخفيف أنشأ الرغبة في اللهو والتسرية عن النفس والتماس ما يُنسي الإنسان تعبَ النهار ومشقات العمل ومتاعب الحياة. إذا جاء هذا الوقت رأيت المرأة معنية بزينتها وثيابها، ومن هنا كانت ثياب السهرة وتَوَخِّي المرأة فيها أن تجعلها ثياب جلوة، تجلو محاسنها كلها وتَعرض مفاتنها وتحيلها أوقع في النفس، لو كان الأمر إلى العقل وحده وإلى الفائدة المطلوبة من الثياب لما كان الليل أحق بهذه الثياب من النهار، ولكن الغرض ليس الفائدة بل الفتنة، والفتنة تكون أسهل ومطلبها أيسر بعد تعب النهار وبعد حلول الفتور الخفيف الخفي الذي يساعد على التغلب على الفريسة.
ولنسأل سؤالًا آخر: لماذا يحلو الغزل والمناجاة في الليل الساجي وفي ضوء القمر اللين، ولا يحلوان تحت الشمس المحرقة وفي الظهر الأحمر؟ وأُجمل الجواب اتِّقاءً للإطالة فأقول: إن الليل هو وقت الفتور، وإن سهوم القمر وسكونه يزيدان هذا الفتور، وإن اجتماع الفتور الطبيعي بالليل بعد الكدح بالنهار واللين المفتر الذي يحسه الإنسان من ضوء القمر يجعل مقاومة الإغراء أضعف؛ لما يحدثه ذلك من استرخاء الأعصاب وكسلها. وشيء آخر أحسبه حقيقة وإن كنت لا أعرف له علة، وذلك أن للقمر أثرًا محسوسًا في حالة الأعصاب؛ ومن هنا يعتقد العامة أن طول النظر إلى وجه القمر يحدث الخبل ويورث الجنون، ولا أعرف علة لذلك، ولست أدري أن العلم اهتدى إلى تعليل له، ولكن الذي أعرفه أن للقمر أثرًا معتَرَفًا به في المد والجزر، فما دام أن له هذا الأثر فماذا يمنع أن يكون أثره أبلغ وأوسع نطاقًا وأَمَسَّ بحياة الجسم الإنساني وحالاته؟ إن الماء الذى يؤثِّر فيه القمر ليس شيئًا أجنبيَّا منا وإنما هو بعض ما نحيا به، بل هو أصل لا مكابرة فيه، ثم إن أثره في المرأة معروف، حتى إن الدورة عندها تُحسب بالشهر القمري. والذي أعرفه أيضًا أن الناس من أقدم العصور قرنوا ضوء القمر بالجنون، ولا تزال في اللغات المختلفة ألفاظ يفهم منها اقتران معنى الجنون بضوء القمر، بل إن اللفظ الدال على الجنون في لغات كثيرة مشتق من اسم القمر، وعسى من يسأل «ولكن ما علاقة هذا بالحب؟» والجواب أن لفت النظر إلى أن الغزل والمناجاة يكونان في الأغلب والأعم في الليل ويطيبان في ضوء القمر، وقد قلت إن تجربة الناس من أقدم العصور هدتهم إلى أن للقمر أثرًا سيئًا في عقل الإنسان واتزانه، وقد بقي في لغاتهم أثر هذا الاعتقاد، وقد يكون أو لا يكون هذا صحيحًا، ولكنه خلاصة تجارب الخلق ومشاهداتهم في عصور طويلة لا يُعرف لها أول، وبعيد جدًّا أن يكون كله وهمًا. ومهما يكن من ذاك فالمحقق أن ساعات الليل ساعات ضعف بالقياس إلى نشاط النهار بعد راحة النوم الكافي؛ فالتأثُّر بالجمال يكون فيها أقوى والمقاومة تكون أضعف.
وقد قلت إن الحب شَرَكٌ تنصبه الطبيعة للإنسان لإبقاء الدنيا عامرة بنسله — لا أدري لماذا — ولكن هذا هو المشاهد على كل حال؛ ففي هذا يحسن أن أقول كلمة وجيزة: سُئِلَتِ امرأة عجوز عن آرائها في بعض وجوه الحياة فقالت: إن سخافة الرجال تظهر في ثلاثة أمور: الأول أنهم يتكلفون عناءً شديدًا ليتسلقوا الشجر ويقطفوا الثمر، ولو صبروا وأراحوا أنفسهم وجلسوا ينعمون بالظل تحت أفنان الشجرة لألقت إليهم بثمرها في أوانه. والثاني أنهم يذهبون إلى الحرب ليقتل بعضهم بعضًا، ولو انتظروا لجاءهم الموت جميعًا. والثالث أنهم يجرون وراء المرأة؛ ولو كفوا عن ذلك لجرت ورائهم المرأة. فهذه عجوز حكيمة، وأحسب أن حكمة الصبر هذه يرجع الفضل فيها إلى السن العالية وما تجره من العجز، ولكن الواقع على كل حال أن المرأة هي التي تطارد الرجل وليس الرجل هو الذي يطارد المرأة، وقد كنت في أول عهدي أستنكر قول ابن الرومي:
أصبحت الدنيا تروق من نظر
بمنظر فيه جلاء للبصر
أثنت على الله بآلاء المطر
فالأرض في روض كأفواف الحبر
نيرة النوار زهراء الزهر
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
والشطر الأخير هو المقصود، وكنت أستثقل قوله إن المرأة تتبرج لتتصدى للرجل، ولكن المرء يزداد فهمه للحياة على الأيام، وإنه ليضحكني الآن أن الرجل يتوهم أنه هو الصائد الجريء المِقدام الذي يوقع منظره الخشن الرعب في قلب المرأة المسكينة الضعيفة! وإنما يضحكني أن هذا الوهم وما يفضي إليه من الغرور هما اللذان يُوقِعَانه في شَرَك المرأة، فهو ينسى لغروره أنه لا يفكر في الحب إلا بعد أن تلقحه المرأة بجرثومته؛ أي بعد أن يصاب به، على حين كانت المرأة تعد عدتها لهذا اليوم، وتتدرب على إجادة هذا الفن، وتدرس كل أساليب الإغراء مذ كانت طفلة في المهد، وهذه مبالغة، ولكني أريد أن أقول إن الطبيعة جعلتها أداة لإغراء الرجل وأعدتها بفطرتها لاجتذابه واستدراجه وإيقاعه في الفخ، وهي في هذا لا تحتاج إلى معلم، وحسبها غريزتها هاديًا ومرشدًا. وهي تتقن فن الاستدراج إتقانًا عظيمًا وتعرف في أي لحظة ينبغي أن تزيد المسافة بينها وبين الرجل الذي تدعه يتوهم أنه هو الذي يبدأ بمطاردتها، وتعرف متى تتباطأ وتقصر الخطو لتزيد أمله في إدراكها، فيقوى عزمه ويشتد عدوه وراءها. والمرأة أعرف بالمرأة، أو هي أولى بذلك من الرجل وأخلق بأن تكون أقدر عليه، وقد وجدت في كتاب لكاتبة اسمها «إلينور جلين»، واسم الكتاب «العاطفة التي تُدعى الحب» هذه النصيحة التي يجدر بكل رجل أن يتدبرها قالت:
قاعدة عامة: أول ما ينبغي أن تتذكريه هو ألا تُظهري رغبة شديدة أو إقبالًا عظيمًا أو لهفة؛ فإن الغرض هو الاستيلاء على الرجل، والرجل مهما بلغ من وداعته وضَعفه يجب أن يتوهم أنه هو الذي يقوم بالمطاردة، ولا بد للفتاة التي تخرج للقنص والصيد من أن تدرس أساليب الصيد ووسائله، وأن تستعين على التوفيق بمعرفة طباع القنيصة، وما من رجل يعتقد أن في وسعه أن يصيد غزالًا بأن يجري وراءه ويصيح به. والأساليب التي يستخدمها لصيد الفهود والنمور غير التي يلجأ إليها حين تكون غايته الأرانب، ومتى استطعت أن تثيري اهتمامه بك فليس عليك بعد ذلك إلا أن تغذي نفسه ببواعث الرغبة فإذا هو بين يديك. واعلمي أن الرجل يجد لذة في المطاردة، ولكن حماسته تفتر متى ألفى الطريدة في حقيبته، وإذا وجد أن الصيد سهل جدًّا فقلما يُعنى بأن يمد يده ليتناوله، وقد يدعه على الأرض حيث وقع. أما إذا كان الطراد شاقًّا عنيفًا مثيرًا وكانت الطريدة شديدة الحذر طويلة الصبر على جهد الطراد؛ فإن الرجل خليق بأن يزهى بالفوز بها وأن يروح يعرض الصيد على العيون مفاخرًا مباهيًا. ا.هـ.
ولا شك أن الواجب الذي وكلته الطبيعة إلى المرأة شاق، فليس من السهل أن تلعب دور الهارب وهي في الوقت نفسه مصمِّمة على الوقوع في يد المطارد؛ فقد تطول المسافة بينها وبينه جدًّا فييأس وينكفئ راجعًا ويعدل عن المطاردة، فإذا تركته يدنو منها جدًّا ويدركها بسرعة وسهولة وبلا جهد يستحق الذكر؛ فقد ينفض يده من الأمر لأنه يراه أسهل عليه من أن يحس أنه يفيد منه متعة ويروح يلتمس صيدًا غيره يستحق العناء. فالأمر يتطلب حذقًا في التقدير وبراعة وسرعة في التقرير من جانب المرأة، ومن هنا يحدث كثير من المضحكات التي يعجب لها الرجل ولايرى له قدرة على فهمها، وكثيرًا ما يفوته الجانب المضحك لأنه يشغل بالفهم على طريقه هو، فيصرفه ذلك عن الفكاهة. من ذلك مثلًا أن واحدة اشترطت لقبول الزواج أن يكون للرجل ألف جنيه مدَّخرة لأن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، فراح المسكين يقتصد ويدَّخر — أو يحاول ذلك على الأصح — وطال الأمر وتعاقبت الشهور وهو يجد ولا يتكلم ولا يظهر أيضًا، وكيف يظهر لها قبل أن يجمع المبلغ المطلوب، فلقيته اتفاقًا وسألته عما صنع فقال: «لم أستطع أن أقتصد إلى اليوم أكثر من جنيهين» فابتسمت له بعد أن أطالت النظر إليه وقالت: «أظن أن هذا قريب جدًّا من الغاية».
وكما أن الرجل يجد لذة في المطاردة، كذلك تجد المرأة لذة في أن تطارَد حتى ولو كانت نيتها معقودة على النجاة لا على الوقوع، وهذا معقول؛ لأنه يسر المرأة أن تعرف أنها جميلة وأن الرجل يريدها وإن كانت هي لا تريده، وأحسب أن المتعة المستفادة من الطراد هي كل ما في الحب من لذاذة، ومتى انتهى الأمر ووقعت الفريسة، فتر النشاط والحماسة، وسكنت النفس وهدأت الأعصاب. ومن هنا يخطئ الذين يتوهمون أن للحب عمرًا أكثر من عمر المطاردة، ومن هنا أيضًا يخيب أمل الذين يتزوجون وهم يحسبون أن الحب يدوم، وما أكثر من يسألون عن الوفاء والحفاظ ما فعل الله بهما، ولو فكروا لما انتظروا وفاءً ولا حفاظًا ولا خاب لهم أمل ولا ندبوا حظوظهم في الدنيا؛ فإن الحب — ككل شيء في هذه الحياة — لا عمر له ولا بقاء، وهو يبقى ما بقيت لذته، ولذته تنتهي بانتهاء المطاردة. كل شيء في هذه الدنيا إلى حين، فلماذا يكون الحب وحده هو الباقي الدائم؟
والمرأة تدرك هذه الحقيقة بغريزتها أيضًا؛ ولذلك نراها تحاول أن تستبقي روح المطاردة بعد انتهائها بما نسميه الدلال، وهو فن يراد به أن يشعر الرجل أن به حاجة إلى السعي والجهد؛ فيؤدي ذلك إلى شحذ الرغبة ونفي الفتور وتجدد الطلب، فالحق أن الطبيعة حكيمة وإن كانت حكمتها لا تبدو لنا في أكثر الأحيان.