سألني صديق عن شيء لماذا أفعله أو أتركه — فقد نسيت — فكان ممَّا أذكر أني قلت له: إني أعيش الآن كما أحب لا كما يجب؛ فقد جاوزت الأربعين، والذي بقي لي من العمر ستفسده الشيخوخة المتهدمة لا محالة، حين ترتفع بي السن فلا يبقى لي حينئذٍ من لذة الحياة إلا الوجود بمجرده لو أن هذا يفيد متعة، فمن حقي في هذه الفترة — التي أرجو أن تطول قبل أن يدركني الذوي والذبول — أن أعتصر من الحياة كل ما يدخل في الطوق اعتصاره من المُتَعِ واللذاذات؛ فأنا أقرأ ما أشتهي، وأذهب إلى حيث أريد، وأجالس من آنَس به، ولا أبالي مَن غضب ممن رضي، فما في الحياة فسحة لمبالاة ذلك، وأطلق نفسي على السجية كلما وسعني ذلك، وليس للناس عليَّ أكثر من أن أؤدِّي واجباتي فيما عدا هذا.
ودخل عليَّ وأنا أقول هذا لصديقي شابٌّ مهذب فحَيَّا وقال إنه يقرأ الآن ديواني، ففزعت ولكني ابتسمت له وقلت: «كان الله في عونك. ومن الذي ابتلاك به؟»
فأهمل السؤال وجوابه وأقبل عليَّ يسألني: «إنك تكتب بسرعة» فقلت: «إن الذي أعرفه أني أكتب في غرفة تحيط بها جدران من الحجارة لا تنفذ العين منها، على خلاف ما كان يصنع ديماس الذي كان يكتب على ما يقال في دكان فيجيء الناس وينظرون إليه من وراء الزجاج، أريد أن أعرف يا صاحبي ماذا تعنى بالسرعة؟»
قال: «أعني أنك تكتب إلى مجلات كذا وكذا وكذا، وتكتب في صحيفة يومية أيضًا. هذا كثير، فمتى تستطيع أن تكتب كل ذلك؟ إنه نشاط عجيب!»
فقلت: «جواب السؤال أني أكتب وأنا نائم، فالذي تقرأه لي هو أضغاث أحلامي، وأما النشاط يا صاحبي فذاك أني ما زلت في شبابي».
فتركني وهو يقول إنه يدرس ما أكتب، وإنه ينوي أن ينشر بحثًا، فاستعذت بالله وحاولت أن أصرفه عن هذا العناء الباطل فما أفلحت، فتوجهت إلى الله عسى أن يصرف عني هذا السوء بطريقة ما، وهل كثير على الله أن يشاء أن تشب النار في كتبي التي عند هذا الشاب، أو تنقلب الدواة كلما هَمَّ بالكتابة، أو تجمد أصابعه أو يحدث له غير ذلك من أسباب التعويق والتعطيل؟
وانفض هذا المجلس، ولكن خاطرًا ثقيلًا أَلَحَّ عليَّ وظل يدور في نفسي؛ ذلك أن كل من ألقاهم من إخواني يذكرون هذا النشاط، ولا يكتمون تعجبهم؛ فلم يسعني إلا أن أتعجب مثلهم وإلا أن أسائل نفسي: «أكان هذا يبدو لهم مني مستغربًا لو أنهم كانوا يرونني شابًّا في العشرين من عمري مثلًا؟ أتراهم يستغربون لأني في ظنهم خلَّفت شبابي ورائي، فالمنتظر من مثلي في اعتقادهم هو الفتور؟» ولم يعجبني هذا التأويل فإنه ثقيل على النفس، وآثرت أن أقول إنهم هم معدومو النشاط ولذلك يتعجبون لي. ثم إني لا أحس إلا أني ما زلت شابًّا، والعبرة بالإحساس لا بهذه الشعرات البيضاء التي يقول ابن الرومي إنها تزيد ولا تبيد فهي مثل نار الحريق، وما قيمة هذه الشعرات؟! لقد ابْيَضَّتْ وأنا في العشرين من عمري، وكنت يومئذٍ بها فرحًا مزهوًّا، كنت أعدها مظهرًا للرجولة ومدعاة للاحترام، فماذا حدث حتى صرت أبغضها أو لا أبغضها وإنما أنظر إليها في المرآة فأزوم، وتقول شفتاي: «هممممم؟» ثم إني أراني أجلد من أبناء العشرين، وأصبر على العناء والجهد، وأقدر على العمل والحركة، وأحسن تلقيًا للحياة، وأسرع استجابة لدواعيها، فما في هذا الذي تطالعني به المرايا؟ وما حاجتي أنا إلى المرايا؟ ومتى كنت أنظر فيها حتى أنظر فيها اليوم؟ كلا، إن أمامي بإذن الله حياة طويلة، وليست الحياة أن أظل باقيًا في الدنيا والسلام، وإنما هي أن أظل قادرًا على العمل وكفؤًا للأعباء، وهذا ما أعتقد أنه سيكون شأني، فما أشعر بدبيب الفتور ولا أرى أية علامة على ابتداء النضوب.
وضحكت وأنا أقول ذلك، فقد تذكرت أني قلت مرة لصاحب كان يحدثني عن هذا الموضوع أو يسألني على الأصح: «هل تعرف حكاية الذي أراد أن يتزوج بنت السلطان؟ لقد زعموا أن رجلًا من الغوغاء زعم أنه سيتزوج بنت السلطان، فلما سألوه كيف يتسنى له ذلك؟! قال: المسألة بسيطة؛ فقد رضيت أنا بزواجها ولم يبقَ إلا أن يرضى السلطان. وكذلك أنا فقد عزمت أن أعيش إلى التسعين والمائة أيضًا وأنا موافق على ذلك وراضٍ بهذه القسمة، وليس باقيًا إلا أن يمالئني الحظ ويساعفني القدر.»
ويتفق لي كثيرًا أن أقف بالسيارة حيث يطيب لي الوقوف، ويسرني حين أفعل ذلك أن أنظر إلى الناس وهم يروحون ويغدون وأنا أتأمل ما يكون منهم، وكيف يمشون وكيف يتحدثون ويميل بعضهم على بعض، وكيف يذهلون عمَّا يكون أمامهم؛ لأن ما هم فيه من الحديث يستغرقهم فيصطدمون أو يحدث غير ذلك مما يضحك ويشرح صدر المتفرج. وأنظر أيضًا إلى الفتيات وهنَّ يمشين وعيونهن دائرات في الرجال فإذا نظروا إليهن أغضين كأنما كُنَّ ينظرن عفوًا. إلى آخر ما لا يسع المرء إلا أن يراه في الطريق.
فحدث يومًا أني اشتريت شيئًا من دكان ثم دخلت السيارة وقعدت فيها وشرعت أدخن وأجيل عيني في الناس، فكان الرجال يمضون ويمرون بي ولا يعيرونني التفاتًا، أما الشبان فكانت عيونهم ترمقني خلسة، وأما الفتيات فكن يحدقن في وجهي صراحة؛ فكنت أبتسم مسرورًا بهذه المناظر. فمرت بي فتاتان بارعتا الجمال فلما بلغتا حيث كنت واقفًا مالت إحداهما على الأخرى جدًّا وهمست وهي تنظر إليَّ: «ده عجوز» ومن الغريب أني سمعت الهمسة الخافتة على بعد مترين، وأحسب أني ما كنت لأسمع ما تقول لو أنها صاحت بأعلى صوت: «ما أحلاه وأجمله وأبرع شبابه!» وأكبر الظن أن الترام كان يمر حينئذٍ فيغرق هذا الثناء بضجته فيفوتني ما يسرني، أو تسقط عمارة فيفزع الناس ويذهلون ويشغل الخلق بذلك وأنا في جملتهم. وأنا أتكلم أولًا ثم أفكر بعد ذلك، والأَوْلى العكس، ولكن هذا ما أصنع غير عامد، فلما سمعت الهمسة الثقيلة رأيتني أصيح بالفتاتين: «فشرت! فشرتما! فشرتن!» فضحكتا وتثنتا وذهبتا تعدوان.
ولم يسُؤني قول الفتاة إني «عجوز»؛ فما كانت سنها تزيد على الرابعة عشرة وأنا فوق الأربعين بسنوات فهي طفلة بالقياس إليَّ، وليس في وسعها إلا أن تحس هذا الفرق. وغير منتظر أن تدرك أن صباها صبا جسم لا أكثر، وأن شبابها الذي تزهى به طراوة ولين وملاسة ونعومة، وعزيت نفسي بلهجة المتشفي به بأنها ستفقد ذلك كله حين تناهز الأربعين، وأنها لن تجد يومئذٍ عوضًا عمَّا فاتها، وأن نفسها ستسبق جسمها إلى الذوي. على حين أظل أنا فيما أرجو شاب النفس لا يضيرني أن الزمن يكون قد حفر على وجهي وجلدي أخاديد عميقة، ومن العدل أن تباهى الفتاة وتزهى بما لا عوض عنه، وليس من الإنصاف أن أنكر عليها ذلك أو أكرهه منها.
ثم رجعت أقول لنفسي: ولكن ما قيمة شباب النفس وحده؟ ما جدواه إذا فقد الجسم شبابه؟ وتذكرت أبياتًا من قصيدة طويلة كنت قلتها منذ عشرين عامًا ولم أنشرها، بل نشرت بضع مئات منها في صحيفة أسبوعية:
أيها الطينُ ما ترى بك أبغي
لست — فيما أرى — لشيء كفاء
إِن طلبتُ السماء قلت لي الأر
ض، أو الأرض كنت لي عصَّاء
إلى آخر هذا الهراء، ولم يكن هذا الطين يستعصي عليه شيء يومئذٍ، وما قلت ذلك إلا في ساعة فتور شديد جعلنى كاليائس، أو انسياقًا مع المعاني التي ولدتها روح القصيدة وأنا أنظمها، ولم يكن يخطر لي أني سأذكر هذه الأبيات التي رميتها وأهملتها حتى مرت الفتاتان بعد عشرين عامًا، ونظرت إحداهما — وأحلاهما — إلى الشيب في فودي وقالت وهي تميل على صاحبتها: «ده عجوز».
وإني لأحس الحياة ثقيلة الوطأة على كاهل الصبر. وإنى لأعود في الليل إلى داري فتقول لي زوجتي: ألا تستريح؟ فأقول كلا، لا راحة لحي. وأمضى إلى مكتبي وأجلس إليه وأهم بالكتابة وأرى النعاس يثني رأسي على صدري، فأنهض متبرمًا ساخطًا على هذه البلادة، وأقول لنفسي وأنا أرتمي على الفراش: أترى لو كنت في مجلس لهو وطرب أكنت أفتر هذا الفتور؟
ويغلبني النوم قبل أن أسمع جواب النفس، وإنى ليكون أمامي الطعام الجيد المُشْتَهَى فأمد إليه يدي محاذرًا، وأتناول منه مترفقًا، وعلى قدر مخافة الكظة أو الانتفاخ، ولم أكن أبالي تلك قبل سنوات، وإنى لأهم بزيارة الصديق فيصدني أن درجات سلمه كثيرة فأرتد وألعن أصحاب العمائر الذين لا يتخذون المصاعد.
ولم يرضني هذا السخط على نفسي، فقلت: وأين هذا الفتور؟ ومن ذا الذي لا يكل أحيانًا؟ إني أعمل كالحمار بالليل والنهار، وأكتب في اليوم الواحد فصولًا ثلاثة أو أربعة لأكثر من صحيفة واحدة، وأقطع بالسيارة أكثر من خمسين كيلو في نهاري، وأسهر إلى منتصف الليل، ثم أقوم في الفجر مع الديكة والعصافير وأقصد إلى مكتبي، وأروح أدق على آلة الكتابة حتى لقد غيَّر جاري غرفة نومه لكثرة ما أزعجه وأطيِّر النوم عنه في الصباح الباكر، وأنا أجالس الناس وأحادثهم وأفعل ما يفعله المرء بشبابه ولا أراني أَكلُّ أو أَهِي أو أَمَلُّ أو أَفْتُر. وإن رأسي لدائب لا يكف عن العمل في يقظة أو نوم، ولو كنت أقيد ما يدور في نفسي لوسعني أن أملأ الدنيا كلامًا، ولكن المصيبة أني لا أقيد شيئًا وأني أنسى؛ فالذي يبقى لي لا يعد جزءًا من مائة ممَّا يخطر لي، كانت لي شكاة فتلك أني أفتر ولا أراني أقنع بما أستطيع وما يدخل في وسعي. ولقد قال لي مرة طبيب حاذق شكوت إليه أني لا أهدأ: إن بنائي كله من الأعصاب، وإن جسمي ليس أكثر من شبكة أعصاب ركبت لها العظام لتمسكها، ووضع لي هنا قلب وهناك معدة إلى آخر ذلك، ثم كُسِيَ هذا كله جلدًا رقيقًا ليمكن أن يقال إن هذا جسم إنسان، ولكن المهم هو هذه الأعصاب، فإذا كنت أشكو شيئًا في بعض الأحيان، فيحسن بي أن أعرف أنه من الأعصاب ليس إلا، فأَرِحْها حين تتعب تعد كما كانت فإنها متينة. وأكبر الظن أن هذه ليست أعصابًا وإنما هي «جنازير من الحديد» ويكفي أنها تتحملك. كذلك قال، ودليل صدقه أني لم أَشْكُ شيئًا قَطُّ منذ سمعت منه هذا، ولو كان بي شيء غير هذه الأعصاب لما نفعني كلامه، ولقد خرجت من عنده إلى صيدلية فيها ميزان فوقفت عليه فإذا بي بثيابي الشتوة لا أزن أكثر من سبعة وأربعين كيلو، فضحكت وقلت: «كم ترى يكون وزني في الحَمَّام بغير هذه الثياب، أو في الصيف الذي يستدعي التخفيف؟ صدق الطبيب الحاذق فما هذا بجسم إلا على المجاز، ولكن هذا البناء الواهي يحتمل النوم على الرمال وتوسد الحجارة. نعم فإني كثيرًا ما أخرج إلى الصحراء فأرتمي على رمالها ساعة وساعتين وتحت رأسي حجر صلد كبير، وفي بيتي أترك الفراش الوثير إلى الكراسي الخشنة التي لا راحة لمخلوق عليها، وأفتح النوافذ وأقعد أو أنام بين تيارات الهواء ولا أرى ذلك يضيرني، وأحسب هذا وراثة، فقد كانت أمي رحمها الله تنام وأنفها إلى النافذة المفتوحة صيفًا وشتاءً. نعم أزكم أحيانًا ولكن الفيل يزكم، وساقي مهيضة ولكن لا أتعب من المشي وإنما أتعب من الوقوف. ولم أتخذ المدافيء قط، فإذا أوقدوا في بيتنا نارًا تركت لهم الغرفة إلى أخرى لا نار فيها، وما لبست معطفًا إلا في أعقاب مرض وعلى سبيل الوقاية إلى حين. وإنى لأرى مناعة جسمي تزداد عامًا فعامًا وأراني كلما علت سني أحس أني صرت أقوى وأصح بدنًا وأقدر على العمل والحركة والجهد. فلست بعجوز يا فتاتي الصغيرة وإني وحياتِك لأصبى من ابني، وإن الذي في عروقي لنار سائلة لا دماء جارية، وقد أحسنت بالانصراف بعد تلك الضحكة الفضية التي ستظل في مسمعي تذكرني بك وتصبيني إلى أترابك، والسلام عليك والشكر لك، وإلى الملتقى «وأين مني يهرب الهارب؟»