أرجو ألا يتوهم أحد أن هذا حديث في فلسفة الحب؛ فإنه لا قدرة لي على الفلسفة، وقد فقدت إيماني بها منذ خذلتني وخيَّبت أملي وعجزت عن أن تفسر لي شيئًا مما يحيرني في هذه الحياة. وقد قرأت كثيرًا مما كتبه الذين ينسبون إلى الفلسفة وإلى البحث العلمي، غير أني لم أقتنع به ولم أسترح إليه، ومن سوء الحظ — حظي أنا بالطبع كما لا أحتاج أن أنبه — أنه ليس لي في هذا الباب تجربة تستحق الذكر، حتى كنت أعرض ما يقول الفلاسفة والعلماء على ما جربت، وأرى إلى أي حد أصابوا ووُفِّقُوا. ولست أكتمكم أني عاجز عن هذا الحب، وعسى أن أكون واهمًا لا عاجزًا، ولكني ما قرأت قَطُّ شعر العشاق وما قالوه في الصبابة والوجد وفيما تضطرب به نفوسهم وتجيش به صدورهم من الخوالج والإحساسات في القرب والبعد، والإقبال والصد، والمواتاة والحرمان، ولا سمعت ممن أعرفهم وصف ما جربوا من ذلك إلا قلت لنفسي — حين أخلو بها: «اسمحي لي يا نفس أن أقول: إنك — ولا مؤاخذة — بليدة». فتسألني: «لماذا؟» فأقول: «لأني لا أراك تحسين شيئًا من هذا الذي أجمع على وجوب الإحساس به الشعراءُ والناسُ قاطبة، فهل أنت بليدة أم هؤلاء كلهم كذابون أو على الأقل مبالغون؟» ولا أحتاج أن أقول إني لا أخرج من هذا الحوار الذي يدور بيني وبين نفسي بشيء آنَس به وأستريح إليه؛ فإنها تصر على أن الناس مبالغون وأُصِرُّ أنا على منطق «قرقوش» المشهور؛ فقد قالوا إن ناسًا كثيرين وضعوا رجلًا من الأحياء في نعش وحملوه فيه كالميت، فمر قرقوش بجنازته فصاح به الرجل مستنجدًا وأكد له أنه لا يزال على قيد الحياة، فأطرق قرقوش قليلًا، وفتل شعرات من لحيته، ثم رفع رأسه ونظر إليه وإلى الناس وقال: «أتريد أن أصدقك وأكذب هذا الخلق كله؟» وكذلك أنا مع نفسي لا يعقل عندي أن تكون هي وحدها على صواب، وكل هذه الملايين من النفوس مخطئة أو كاذبة أو مبالغة.
ولا أنكر أن نفسي كانت تتحرك أحيانًا، فأشجعها مسرورًا، وأستحثها فرحًا بيقظتها بعد طول السبات، ولكن أقصى ما جربت حين تفتح النفس عينيها على ما حولها أن يخفق القلب خفقات تصعد به إلى حلقي من فرط شدتها؛ فأفيق وتعود فتهوي به إلى قريب من حذائي، كأنما هذا ليس قلبًا وإنما ركب لي الله سبحانه في مكانه لعبة من لعب «اليويو» التي شاعت في الزمان الأخير. وأحيانًا أشعر بأن حولي فراغًا وأحس شيئًا من اللهفة وقليلًا من الشوق، ولكنه شوق هادئ ولهفة محتملة لا تثقل على النفس ولا يشقى بها القلب ولا يَسْوَدُّ من جرائها العيش، وشبيه بذلك أن يشتهي الإنسان أن يرى شريطًا من أشرطة السينما سمع عنه ثَنَاءً أو أن يشتاق أن يطوف حول الأرض أو يشاهد معرضًا كبيرًا في بلد ناءٍ، ولا أظن أن هذا يعد حبًّا بالمعنى القديم أو الحديث.
وللسامع العذر إذا تساءل: كيف إذن كنت تقول الشعر في شبابك، وتذكر فيه الحب ولواعجه وصباباته، وما تزعم أنك كنت تعانيه من السهد والضنى أو تريقه من الدموع إلى آخر ذلك؟ والسؤال طبيعي ولكن الجواب عنه حاضر، ولولا عادة الصدق التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة لعَزَّ الجواب. والجواب يعرفه القراء فقد سقته في فصل سابق عن الحب نشرته لي «الرسالة» وخلاصته أني أوحيت الحب إلى نفسي.
ومن الجرأة أن أزعم أن الناس كلهم كذلك، ولكني أقول إن نشوة الحب تطول عند الناس بفضل الإيحاء المستفاد من تأثير الجماعة والعُرف، ولو خلت الكتب ممَّا نقرأه في وصف الحب وأثره في النفس، وألف المرء أن يرى الناس يحبون حبًّا لا يخرج بالنفس عن الاتزان؛ لصار الحب هادئًا فاترًا كالصداقة. وأحسب أن الفرق بيني وبين غيري ليس هو أني شاذ وهم طبيعيون، بل أني تأثرت بإيحاء الجماعة وإيحاء الكتب، وأنا عارف بذلك مدرك له متفطن لحقيقته، وأن الأكثرين يتأثرون على هذا النحو تمامًا، ولكنهم لا يدركون أن في الأمر إيحاء ولا يفطنون للحقيقة فيه، والحياة تقوم — كما لا أحتاج أن أبين — على الإيحاء، وكل امرئ يوحي إلى كل امرىء آخر ويستوحي منه، بل نحن نستوحي الأشياء كما نتلقى الإيحاء من الناس.
ويخيل إليَّ أن الحب اسمه غلط؛ فإنه يبدو لي أن هذه العاطفة التي نسميها الحب خالية في الحقيقة من الحب، والعلاقة فيها بين الجنسين ليست علاقة مَوَدَّة، وهذا كلام قد يبدو متناقضًا ولكني أظنه صحيحًا؛ ذلك أن الحب ضرب من الجوع، ولا تقولوا إنه جوع معنوي فإن هذا يكون تخريفًا؛ إذ ليس ثَمَّ فيما يتعلق بالإنسان أو الحياة شيء معنوي. والإنسان مادة وكل ما في الحياة من المادة وإلى المادة، فلندع هذه الخيالات ولنجتزئ بالحقائق؛ فإن أرضها صلبة متينة لا تسوخ فيها الرجل، والمرء يجوع فيشتهي الطعام أي يطلبه، لا لأنه يحب الطعام في ذاته، ولا لأن بينه وبين ما يأكل مودة، بل ليسد الحاجة التي يشعر بها ويقضي الرغبة التي تلج به ولا يستطيع أن يهدئها بغير الأكل، وكذلك يجوع جوعًا من ضرب آخر، جوعًا يطلب به إرضاء الرغبة الطبيعة في النسل إطاعةً لغريزة حفظ النوع، كما يطلب بالأكل إطاعة لغريزة المحافظة على الذات. وكما لا يقال إن بين الآكل والمأكول مودة، كذلك لا ينبغي أن يقال إن بين المحبين مودة، إنما تكون العلاقة بينهما قائمة على الرغبة في الالتهام أو الاستحواز إطاعةً للغريزة لا عن مودة. والحبيبان أشبه بالمتقاتلين المتبارزين منهما بالصديقين المتوادين؛ لأن مطلب كل منهما الاستيلاء والغلبة، وهما لا يستعملان سلاحًا ولا يحدثان جراحًا، ولكن الواقع أن القُبَلَ والعناق والضم وغير هذا وذاك مما يكون بين المحبين، كل ذلك ليس إلا وسائل للتليين بغية التغلب.
وقد استعمل الشعراء ألفاظًا كثيرة كانوا فيها صادقين من حيث لايشعرون، فذكروا في مواقف الحب وحالاته المختلفة المتعددة السيف والجراح والأكباد القريحة والقلوب المفجوعة والنفوس الكليمة والسهام وما إلى ذلك، فأشاروا إلى حقيقة العلاقة بين الحبيبين من حيث يحسون بها بالفطرة ولا يدركونها بالعقل. والحقيقة هي أن الحب حرب واقتتال وفتك، وغايته — وهي النسل — تنطوي على تعرض للتضحية الكبرى على الأقل من جانب المرأة، وسبيله الإخضاع. فالمرأة تحاول إخضاع الرجل ليتسنى لها بذلك أن تجيء بالنسل الذي جعلتها الطبيعة أداة له، والرجل يحاول إخضاع المرأة ليتسنى له أن يجعلها تجيئه بالنسل الذي يطلبه بغريزته، والحال بينهما دائر أبدًا على الكفاح. وفي كل شعر صادق — قديم أو حديث — لمحات عديدة تدل على التفطن إلى هذه الحقيقة ولو من غير إدراك تام صحيح جلي لها.
والحب يتخذ الصورة التي يؤدي إليها التفاعل بين عاملين: الأول وهو الدافع الغريزي للإنسان، والثاني هو مقاومة الجماعة، وهي مقاومة مرجعها إلى العُرف والدين وما يجري هذا المجرى. وإلى تفاعل هذين العاملين وما ينتجانه فيما بينهما من الأثر ترجع الصور الشائعة للحب بين الجماعة. وقد كان التحرج شديدًا في الجيل الماضي من ذكر الحب والاعتراف به أو المجاهرة به؛ لأن التقاليد كانت صارمة وكان لها معين من الدين لا يُستهان به، وكانت الجماعة تنزع إلى الاحتشام، وكانت قاعدة الحياة من هذه الناحية المثل المشهور: «إذا بُلِيتُم فاستتروا» فكانت معاقرة الخمر على قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العُرف، وكان الشبان مثلًا يستحيون أن يجلسوا في القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا، وزلزلت قواعد الحياة فيها، وانتشر التعليم، وشاع الاطلاع على الآراء الجديدة في الأمور الجنسية، وهدمت الهيئة القومية المصرية حواجز كثيرة وفي جملتها ما كان يفصل بين الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس — شيئًا فشيئًا — يلهجون بذكر الحب ويتناولونه في مجالسهم وفي كتاباتهم تناوُلًا هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمي، ولم يعد الشبان — بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم — ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون في الأمر موجبًا للحماسة أو داعيًا للخجل أو باعثًا على الاستحياء. وجاء التطور الاجتماعي ولا سيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادمًا لحاجز منيع بين الرجل والمرأة. وفي الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها، فإذا لم تكن ثَمَّ ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه في سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر.
ومن أخطار الحرية في بادئ الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التي تقابل الحقوق، والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التجارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العملية الأليمة؛ وبذلك فقد الحب الهالة التي كانت حوله وسُلِبَ القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرًا عاديًّا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية؛ لأن وطأة العُرف والتقاليد ضعفت وخفت جدًّا حتى ليمكن أن يقال إنها غير محسوسة في الأغلب والأعم، وفي مثل هذه الأحوال التي يعظم فيها الترخُّص والتسامح يندر الحب القوي العميق الطويل العمر، وقد يكون هذا الحال هو بعض السر في ركود الشعر إلى حد كبير في هذه الفترة من حياتنا الأدبية.