المناسبة: نص حديث أذيع في الراديو في يوم من رمضان.
لما شرعت في إعداد هذا الحديث لم أجد في رأسي شيئًا فاستغربت، فقد كنت أظن أن فيه كلامًا كثيرًا، وزاد عجبي علمي بأنى لو وجدت من أكلمه في تلك اللحظة واستطردنا في حديثنا إلى موضوع الصيام ورمضان لما عدمت كلاما أقوله لجليسي، ولرأيت لساني لا يكف عن الدوران إلا على سبيل المجاملة لصاحبي، فأين يهرب الكلام يا ترى حين نحاول أن نقيده وندوِّنه؟ ولماذا يشق حين نتناول القلم، ويخف ويسهل حين يجري به اللسان ببن الإخوان؟ أهو الشعور بأن المرء يحاسَب على المكتوب المذاع، ولا يحاسب على ما يقوله في المجالس؟ ربما. إن الذي أدريه هو أني تناولت رأسي بين يدي وجسسته، ولو استطعت لقلبته وهززته كما يفعل المرء حين يشتري بطيخة، فلما لم أجد فيه شيئًا قلت لنفسي: «جاءك الموت يا تارك الصلاة. وهل كان من الضروري أن أختار هذا الموضوع الذي لا أجد عندي كلامًا فيه؟ وتالله ما أغرب الإنسان! يُعَقِّدُ على نفسه الأمور ويزج بها في المآزق ثم يروح يصرخ ويستغيث، وهو الذي أوقع نفسه وحشرها في المضايق؛ وذلك لأن لسانه يسبق عقله، وغروره يهون عليه الأمر، والواقع أني حين اخترت هذا الموضوع كنت أحس أن السحابة السابحة في رأسي مثقلة بالماء، وكان يخيل إليَّ أني لا أحتاج إلى أكثر من أن أشير إليها بأصبعي، فإذا هي تسح وإذا الكلام يصطف وحده ويتراصُّ على الورق، فلما آن أن أستمطرها إذا هي قد هراقت ماءها من زمان.
و الذي أعرفه عن الصيام أنه يكون في أول عهد المرء به تجويعًا وحرمانًا، وأحسب أن هذا أول ما يعرفه عنه أي إنسان، ثم يترقى في المعرفة فيصبح عنده عادة — كما يصبح كل شيء في هذه الدنيا — عادة له وللناس يشق عليه أن يخالفها لطول ما جرى عليها، ويجبن عن الخروج عليها، أو على الأصح عن المجاهرة بالخروج عليها، وقد يدرك المرء — عاجلًا أو آجلًا، في شبابه أو في كهولته — أن الصيام لا تجويع ولا حرمان، وأن القدرة عليه تصبح عادة، ولكنه هو رياضة.
وقد كان أول عهدي به وأنا صبي غير مكلَّف، ولم يكرهني عليه أحد فقد نشأت في ظل أهلي على الحرية التي لا تتجاوز حدودها إلى التوقُّح وقلة الأدب، وإنما أكرهني على الصيام أمران: أن كل من أرى حولي يصومون، وأني لم أكن أجد طعامًا آكله؛ ذلك أن رمضان عندنا — كما هو معروف — يقلب نظام البيوت، ويعكس آيتي الليل والنهار فيجعل الظهر صبحًا، والعصر ضحى، والمغرب ظهرًا، والليل نهارًا، ولا أدري لماذا يحدث كل هذا؛ فإن تأخر وقت الطعام بضع ساعات لا يحوج إلى كل هذا الانقلاب، ولكن هذا هو الذي يكون ولا يكون سواه عندنا؛ فترى الناس يقومون من نومهم قبيل الظهر، ويفتحون عيونهم على النهار البطيء، ويسألون عن الساعة كم بلغت في دورانها، فإذا سمعوا أنها قاربت الحادية عشرة خيل إليك من ترددهم بين استئناف النوم والقيام أنهم يحسبون الفجر لا يزال باقيًا عليه نصف ساعة، ثم ينهضون — حين يفعلون — متثاقلين متثائبين مقطبين، كأن النوم والذهول عن الدنيا هما الحياة، صُفر الوجوه كأنما صبغت في نومهم بصبيب الزعفران والكركم، ويبدو لك من فتور نظراتهم أن الإنسان لا يعيش إلا في انتظار الطعام ليس إلا، فإذا وثق أنه مبطئ عليه، ولو إلى حين معلوم، لم تعد الدنيا تستحق أن يفتح عليها عينه، ويشغل بقية النهار في التفكير فيما يأكل حين يؤذَن له في ذلك، وفي ابتداع الألوان وإعداد العدة لسَدِّ هذا الفراغ المحلي الذي تفرغ الدنيا بسببه، وتفقد قيمتها من جرائه، وتزين المائدة وتصف عليها المشهيات من كل نوع، وتخرج الساعات من الجيوب، وتتعلق بعقاربها العيون، وترهف الآذان لصوت المدفع أو المؤذِّن، حتى إذا غابت الشمس سكنت الأصوات، وانقطعت الحركات إلا حركات الملاعق والسكاكين والأشواك، وعادت المدينة أو القرية كأنها نائمة، وكأن هذا نصف الليل لا آخر النهار، فلو زحف جيش غريب في هذه اللحظة لما وجد فردًا يقاومه ويرد عاديته. ثم تبدأ الحياة بعد ذلك يزخر عبابها وتصطخب أواذيها، وتعلو الأصوات وتنطلق الألسنة والأيدي والأرجل أيضًا.
وقد كان يسوءني من رمضان الجوع الذي أكابده والحيرة التي أعانيها؛ فأنا أصوم غير مأمور ولا مكلف لأن الجو الذي أعيش فيه لا يسمح لي بالتفكير في غير الصيام، ولكن معدتي جديدة شديدة الإلحاح، لا تكف عن الطلب والصخب، ولا تعبأ بألف جو كالذي هو حولي، ولكني لا أجد ما آكل، وتحدثني نفسي أن أخرج إلى السوق وأشتري بعض القوت، غير أني أنظر في يدي فألفيها فارغة أو كالفارغة، فقد كان أهلنا يعطوننا الملاليم، ويحسبون أنهم يُسرفون، ويحاسبوننا عليها آخر النهار ويسألوننا في أي شيء أضعناها، كأنما كُنَّا نبعثر ثروات روكفلر وروتشلد، فليت أهلنا أولئك عاشوا إلى اليوم ليروا ماذا يأخذ مِنَّا أبناؤنا اليوم ولا يقنعون.
وكانت بقية من الصواب الذي يطيره الجوع تهمس في أذني أن ادِّخِرْ ملاليمك إلى الليل؛ فإن ليالي رمضان أعياد للأطفال، وكنت أعرف أني سأحتاج إلى هذه الملاليم لأنفق منها على المصابيح والشموع والحلوى واللعب إلى آخر ذلك، وقد نأخذ الشموع من البيوت، ونقبض أثمان المصابيح، ولكن الملاليم مع ذلك لازمة لأشياء أخرى كثيرة مما يُغرى به الأطفال. وكان سبب آخر يدعوني إلى الضن بملاليمي على الطعام في النهار؛ ذلك أن روائح ذكية تفوح في البيت من الآكال الشهية التي يندر أن تصنع في غير رمضان من مثل القطائف والكنافة وما يجري هذا المجرى، وليس بطفل من لا يُؤْثِرُ هذه الأطعمة على كل ما عداها، ولا أدري لماذا ينفرد رمضان دون بقية الشهور بهذه الألوان؟ ولكن هذا هو الواقع، وقد تُصنع في غير رمضان، ولكن الناس لا يواظبون عليها، ولا يستكثرون منها كما يفعلون في رمضان.
وعلى كثرة الآكال في شهر الصيام ووفرتها، كان أول ما وقع في نفسي منه أنه شهر حرمان؛ لأن سلوك الناس فيه — وأعني الناس الذين يكبروننا في السن — لا يدع محلًّا لغير هذا الرأي، بل كان رمضان يشعرني بالحرمان في بقية شهور السنة، لا من الطعام فإن الأكل أقل ما يعنى به الطفل، والطفل كل شيء يسد رمقه، وأيسر ما يجده يكفيه، وهو يستوي عنده الديك الرومي والجبن الرومي، بل لعل الجبن أحلى عنده وأشهى إليه، ولكن رمضان فيه معنى الوفرة والكثرة، وفيه يكون السهر والأنس، والنور والبهجة، والتسامح والأفضال والكرم، وهذا ما لا تجده — أو ما يندر أن تجده — في غير رمضان، وقد كان يسرني من هذا الشهر أنه شهر الضجة المباحة في الليل، واللعب بلا زاجر أو كابح، والسهر والتسلي بلا مانع أو ضابط.
وكان البنات الصغيرات مثلنا يخرجن أسرابًا في أزهى ثيابهن، وبعضهن يحملن على أيديهن أطباقًا فيها ما يسمينه «علي لوز» ويمشين وهنَّ يغنين، فتغلبنا روح الفروسية الكامنة في نفوس الرجال، ونترك ما نكون فيه من اللعب ونجعل من أنفسنا لهن حرسًا ونمضي معهن، ونحن حافُّون بهن إلى حيث يشأن أن يعرضن بضاعتهن التي في الأطباق إلا حين يدخلن البيوت ليبعن ممَّا معهن، أو ليسلمن على أهلهن أو معارفهن، أو ليجئن بمدد من أترابهن، فقد كنا نصطف على الأبواب في انتظار خروجهن، وقد يسأم بعضنا طول الانتظار أو تفتر في نفسه روح الفروسية، فيتخلى عن واجبه، ويكر إلى ما كان فيه من اللعب، ويبقي الآخرون أمناء ثابتين في مواقفهم، حتى يخرج عليهـم السرب المتدافع بوجوهه النضرة المشرقة، وعيونه الضاحكة المتلألئة، وثغوره المفترة، وشعوره المتهدلة، وثيابه الزاهية. وعلى صغري لم يسعني إلا أن ألاحظ أن هؤلاء الصغيرات كان يسرهن أن نكون معهن لحمايتهن وإيناسهن وأن ضجتهن تكون عالية، وضحكاتهن مجلجلة وغناءهن غير منقطع حين نكون نحن الصغار أيضًا معهن، فإذا لم نكن معهن صارت أصواتهن خفيضة، وكلامهن همسًا ووشوشة، وسرن متلاصقات حتى ليتعذر أن تميز جسم التي يبدو لك وجهها منهن؛ فهي عدة رءوس على أجسام متلاحمة غير متميزة.
ومن أمتع ما كنت ألاحظ في طفولتي كثرة السهو عند الصائمين، وشدة الذهول أحيانًا، والأطفال دقيقو الملاحظة، وإن كان الكبار يحسبونهم عميًا صمًّا لا يرون ولا يسمعون، وأحسب أن الكبار لا يُعنون بأن يراجعوا كتاب طفولتهم، وأكثر الناس يعدون هذا الكتاب — كتاب الطفولة — غير جدير بالمراجعة، وهؤلاء قَلَّمَا يفهمون الطفولة، أو يدركون حاجاتها ومسراتها وأحزانها، ولكني أنا مَعْنِيٌّ بنفسي، وعيني لا تزال تدير نظرها بقلبي، وتجيل لحظها فيما مضى من حياتي. وقد كان يسرني في رمضان أن أرى الصائمين يعظم سهوهم، ويكثر نسيانهم ولا أدري لماذا، وما أظن الجوع وحده هو الذي يصنع ذلك، ولعل السبب أنهم في رمضان يكونون في نضال مع نفوسهم، وكفاح مستمر لأهوائهم، ومقاومة دائمة لرغائبهم، وشغل لا يفتر ولا ينقطع بهذا العراك الناشب بين عاداتهم وبين الحرمان منها دفعة واحدة بلا تمهيد أو تدرج، ولكني في صباي لم أكن أدرك هذا أو أفكر فيه، وإنما كنت أرى وأضحك وأقهقه.
وكان لنا جار طرابيشي لم أَرَ أشد منه سهوًا في حياتي، ومما أذكره من حوادث سهوه وأضحك منه إلى اليوم أنه نودي مرة من تحت الشباك، وكان المنادي ملحاحًا عظيم اللجاجة، وكان هو نائمًا فاستيقظ على الصوت الصارخ الملحِف وأطل من النافذة، فأهاب به صاحبه أن ينزل بسرعة فقال: «حاضر. حالًا حالًا». وتناول طربوشًا فوضعه على رأسه، ثم نسي أنه لبسه، وكان يهم بالخروج عن الغرفة، فأخذت عينه طربوشًا آخر فخيل إليه أنه نسي الطربوش فوضع الطربوش الثاني على الأول وانحدر مسرعًا، فلما بلغ باب البيت ارتد مسرعًا فصاح به صاحبه: «تعال تعال». فرد عليه الطرابيشي بصوت عال: «حالًا حالًا. بس نسيت الطربوش». نسي الطربوش وعلى رأسه طربوشان.
وكانت لي عمة يورثها الصيام ذهولًا عجيبًا، وكانت إلى هذا كبيرة السن، ولكن الطفولة لا رحمة فيها ولا شفقة، وهي — أي الطفولة لا عمتي بالطبع كما لا أحتاج أن أقول — الدليل على أن الإنسان لا فاضل ولا كريم ولا شريف ولا على شيء من الخير في الأصل، وإنما يكون كذلك بالعادة والتنشئة وبقوة العُرف وبالقوانين والشرائع الزاجرة وما إلى ذلك، ولكن هذا موضوع آخر بعيد جدًّا عمَّا نحن فيه الآن، وقد تتاح لي فرص أخرى فأخوض فيه معكم. وأرجع إلى عمتي إذا سمحتم فأقول إن ذهولها كان مظهره أنك إذا جلست إلى جانبها وهمست بكلمة ما — أي كلمة — أدخلتْها هي في كلامها غلطًا، فمثلًا كنت أجلس إلى جانبها وأقول بصوت خفيض جدًّا هكذا: «مضروبة، مضروبة، مضروبة». ويخطر لها هي أن تنادي أمي مثلًا في هذه اللحظة فتقول — هذا على سبيل المثال بالطبع: «يا مضروبة على عينك يا ست أم فلان». أو يتفق أن تكون في حديث مع خالها — وكان حيًّا في ذلك الوقت ولا أحتاج أن أقول إنه كان طاعنًا في السن — فأُسر إليها هذه الكلمة بالصوت الخافت: «كذاب، كذاب، كذاب». فما يكون منها إلا أن تقول له: «يا خالي الشيخ يا كذاب». فأموت أنا من الضحك، ويحدق الشيخ الوقور في وجهها مذهولًا من هذا الاجتراء عليه، وتنهرني أمي وهي تكاتم الضحك وتغالبه، فأقوم أجري وأنا أتعثر كل بضع خطوات من شدة الضحك.
وكثيرًا ما كنت أرى الناس — أعني الكبار منهم — يغلطون — أو لعلهم يتظاهرون بالغلط — فيأكلون ثم يتنبهون — بعد أن يبلعوا ما في أفواههم — ويقولون: اللهم إني صائم أو كلامًا كهذا، وكنت أضحك في أول الأمر منهم، وأصيح بهم كما يفعل الصبيان حين يرون الكبير يغلط، ولكني تعلمت منهم السهو على الأيام، والمعايشة تعدي، وسَرَتْ إليَّ عدوى الذهول فكان كثيرًا ما يتفق أن أنسى أني صائم فآكل، ثم أتذكر فأتأسف وأقول: اللهم عفوك، لقد نسيت وإني لصائم، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، وقد نويت الصيام من قبل الفجر وكل من في البيت يشهد. وأحمد الله وأروح أنتظر الفطور مطمئنًّا هادئ النفس أو هادئ المعدة على الأصح.
وقد تغيرت الدنيا الآن، ذهبت تلك الحارات القديمة المظلمة التي لا يضيئها إلا بضعة مصابيح معلقة على أبواب من يُعْنَوْنَ بالإضاءة ولا يبخلون بما تكلفهم من البترول، ولا يغالطون الحكومة فيطفئون المصباح ويزعمون أن الريح هي التي أطفأته، وانهدمت تلك الدور العتيقة ذات الأفنية الرحيبة والمناظر العديدة، وكانت هذه الحارات الضيقة الملتوية والأفنية والساحات الواسعة هي ملاعب الأطفال. والآن اتسعت الشوارع وارتفعت المباني الضخمة والعمائر الشامخة التي تسع الواحدة منها أكثر ممَّا كان يسع شارع قديم طويل في الزمن الغابر، وضاقت بهذه السعة دنيا الأطفال؛ فإن الشقق لا تصلح للعب، والجيران من كل جنس وملة، وقَلَّ أن يعرف الساكن جاره المصاقب، والشوارع خطرة لفرط ما فيها من الحركة التي لا تكاد تنقطع في ليل أو نهار، ومطالب الحياة نفسها صارت ألح وأدعى للعجلة وأنفى للراحة والفراغ، فضاق حتى وقت الأطفال عن اللعب، وفقد رمضان تلك البهجة القديمة التي كان يجدها الأطفال والفرحة التي كان يدخل بها على قلوبهم الصغيرة.
وشببت عن الطوق — كما كان لا بد أن يحدث مع الأسف ما دمت قد حييت وبقيت في الدنيا التي لا يبقى فيها شيء على حال — وصار الصيام عندي كما يصير عند الأكثرين عادة لا أقل ولا أكثر، وكنت أشعر في صدر شبابي أني خسرت روح الطفولة ولم أَعْتَضْ منها حكمة الرجولة أو علمها وتجربتها وحنكتها وسداد نظرها، وذلك شيء لا يُستفاد من المدارس، ولا يُكتسب من الكتب، ولو كان إليه سبيل من هذه الطرق لفزت منه بالحظ الأجزل والنصيب الأوفر، فقد كنت شرهًا نهمًا أقرأ كل ما تصل إليه يدي وتسمح لي مواردي بالحصول عليه، ولكن كثرة القراءة بلا مرشد وسعة التحصيل بغير هادٍ مسدد كان من نتائجها أن قُمِعَتْ في نفسي روح الطفولة قبل الأوان، وأن تخطيت عهد الشباب ووثبت إلى الكهولة دفعة واحدة، حتى لكنت أحس — بلا مبالغة — أن نفسي شابت، وكنت أستثقل الحياة وأستهول طول مدتها وأستبطئ الأجل، وأشعر أن الدهر عمري وأني أخو نوح، وأني أحمل عبئًا — بل جبلًا — من السنين الثِّقَالِ، وسر هذا كله أني وثبت من الطفولة قبل أن أستوفي حظي منها إلى الكهولة النفسية، من غير أن أذوق طعم الشباب؛ لأن بلادنا — بل الشرق كله مع الأسف — ليس فيها مجال كافٍ لحياة الطفولة وعهد الشباب — شباب النفس لا شباب الجسم، فما لي بهذا شأن هنا؛ ومن أجل ذلك ترونني — إذا كنتم ترونني — أستعيد — ولا أقول أحاول فإني أستعيد فعلًا — في كهولتي الحاضرة هذا الشباب المفقود الذي رزئته وفُجعت فيه، فما يليق أن أخرج من هذه الدنيا — حين أخرج بعد عمر طويل جدًّا إن شاء الله — وما عرفت هذا الشباب.
وأعود إلى رمضان والصيام فيه فأقول إنه لم يرضني أن أجري على حكم عادة قديمة، وأن أصوم لأن هذا هو الذي يصنعه كل الناس في هذا الشهر، وقلت لنفسي: إذا كان الأمر عادة ليس إلا فإني لا أحب أن أعتادها، وبدا لي أن المسألة ليست مسألة جوع إلى وقت معلوم، وأكل في ساعة معينة، فسألت طبيبًا فقال إنه يفيد الصحة إذا خففت واجتنبت هذا الإثقال الذي يقع فيه الناس في رمضان، وزاد فقال إن الصيام راحة وإعفاء وتنقية وتطهير — أو كلامًا كهذا فإني أخشى أن يعترض الأطباء على سوء التعبير — وكان هذا الجواب صوابًا بلا شك ولكنه لم يكفني، فقلت لنفسي مرة: وما الحاجة إلى سؤال الأطباء؟ إن الصيام يدعو إلى مخالفة العادة التي جرى عليها المرء طول السنة في كل شيء، وهو يكلف الإنسان نقض عاداته جميعًا لا يومًا ولا مرة بل ثلاثين يومًا متتابعة، ومن الواضح جدًّا أن هذه رياضة، وهل الرياضة — بإيجازٍ — إلا أن تحمل نفسك على ما لم تألف؟ انتهينا إذن ولا داعي للبحث والتفكير ووجع الدماغ والفلسفة الفارغة، أم لا بد أن تكسو البسيط ثوب المعقد.
فخلاصة الصيام هو فعل ما يجب لا فعل ما يروق، والإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل ما يجب حين يجب لا يكون إنسانًا، وأي خير فيمن لا يستطيع أن يفعل إلا ما يعجبه ويروقه ويطلبه ويخف عليه ولا يتعبه أو يكلفه عناء؟ ومن ذا الذي يعجز عن ذلك؟ فالصيام من هذه الناحية رياضة وتربية تتكرر بعد فترات طويلة يفتر أثرها في خلالها فيحتاج الأمر إلى إعادتها وتكريرها، والتربية هنا شاملة للنفس والجسم جميعًا، وهذا عندي خير ما في الصيام؛ ولهذا يوافقني لأني رجل مولع بتربية نفسي ورياضتها حتى ليخيل إليَّ أن نفسي تعتقد أني خصم لها وعدو رُمِيَتْ به.
ولا تخشوا أن أحدثكم عن حكمة الصيام؛ فإني لست من أهل الحكمة، ولو كنت منهم لما صرت إلى ما صرت إليه، ولا تخافوا أن أقول لكم كلامًا فيما يدفع إليه الصيام من البر والإحسان، وما يحركه في النفس من روح العطف؛ فإنما هذا شيء لا أحسن أن أقوله إذا صح أني أحسن شيئًا، ثم إني عطوف بطبيعتي، رقيق القلب بفطرتي، والذي في يدي ليس لي، ولست أعني أنَّه مسروق أو مُقْتَرَضٌ، فما سرقت في حياتي إلا مرة أو مرتين: مرة في طفولتي، ومرة في شبابي. وفي كلتا المرتين رددتُ واللهِ ما سرقت، وصدقوا أو لا تصدقوا فقد مضى وقت كافٍ، فسقطت الجريمة على كل حال. وأما الاقتراض فإني أقول مع الأسف إن إخواني عرفوا أن من مبادئي التي لا أتساهل فيها أو أتسامح أن الذي يقرض إنسانًا غيره يكون عبيطًا، ولكن أعبط منه الذي يرد ما اقترض، ومذ عرف إخواني هذا سُدَّ الباب في وجهي. ولكني أعني بقولي إن ما في يدي ليس لي أني كريم جواد، حتى لكأني من أولياء الله الصالحين الذين يقال إنهم ينفقون مما يجدونه دائمًا تحت السجادة، فلو أن كل ما في الصيام أنه يغري بالعطف والكرم والبر بالفقراء والمعوزين لما كانت بي حاجة إليه، ولكان الصيام زيادة لا ضرورة إليها.
وأنا في رمضان أكون أجوع خلق الله؛ لأني لا أستطيع أن آكل في النهار كما هو معلوم، ويزين لي شيطان الجوع أن أغافل أهل البيت وآكل شيئًا، ولكني أعود فأقول: «يا شيخ اختشي، عيب! أين الإرادة التي ربيتها؟! أين رياضة النفس هذا العمر كله؟! ماذا صنع الله بها؟ ويصبر الأطفال والنساء — أو على الأقل أراهم يتصبَّرون فما أرى ما يفعلون خفية — ولا تصبر أنت؟!»
وينطلق المدفع فأرى المائدة مزدانة بكل شهي — ومن كان لا يصدق فليتفضل، وإن كنت أخشى أن أحتاج إلى البوليس بعد هذه الدعوة — ولكن طول الجوع يكون قد فتَّر رغبتي في الطعام، فلا أتناول منه إلا بقدر. أما السحور فلا أمل فيه؛ لأن النوم عندي أحلى من الطعام، ومبدئي أن كل نومة وتمطيطة أحسن من فرح طيطة. فأنا لا آكل في الأربع والعشرين ساعة إلا ربع أكلة من أكلاتي العادية في غير هذا الشهر الكريم؛ ولهذا ترونني فيه أبدًا جوعان.