أراني كلما فسد الجو، وكثر تقلبه، وعَزَّ الاطمئنان إليه، أميل إلى الخروج إلى الصحراء أو الريف، ولا أطيق القعود في البيت، ولست أعرف لهذا المزاج — الشاذ فيما أعتقد — تعليلًا يسكن إليه العقل وتستريح إليه النفس. فأما أنه مزاج شاذ فأعرف من صياح أهلي حين يرونني أرتدى ثيابي والمطر منهمر، والريح تعصف، وأهم بالخروج. ولست أراهم يَمَلُّونَ أن يقولوا لي: «يا شيخ، ما هذا الجنون؟ تخرج في هذا المطر! أما إن هذه لحكاية! اقعد … اقعد … نضرم لك الفحم ونشوي «أبا فروة» أو نمص القصب ونحمد الله على وقاية الجدران».
فأهز رأسي وأقول: «ما أحلى هذا! ولكني لا أطيق المكث هنا على حبي له بينكم، ولست أحب أن أفارقكم لحظة، وإنه ليعز عليَّ ألَّا تأخذكم عيني في حيثما أكون، ولكن نفسي أمارة بالسوء، أو بالحماقة، أو بما شئتم غير ذلك. فإذا كنتم تحبونني فتعالوا معي؛ فإن الفضاء رحيب، والصحراء واسعة، وهاتوا القصب معكم، وأبا فروة أيضًا، نضع هذا كله في السيارة ونمضي بها … قوموا».
ولكنهم لا يفعلون، فأمضي وحدي وأعود بزكام أو برد، ولكني أعود مستريح النفس هادئ الأعصاب! وقد كنت أقول لصديق لي منذ بضعة أيام، وهو من أصحاب العقول المثقفة، والنظر البعيد، والغوص الشديد: «يا أخي لماذا لا يحب المصريون الريف؟»
قال: «وكيف لا يحبونه وهم لا يبرحونه؟»
قلت: «إنما أعني أهل المدن — القاهرة مثلًا — قلَّما يخطر لهم أن يقضوا أيام البطالة والفراغ من العمل في رحلة إلى الريف».
قال: «وأين تريد أن يذهبوا، وليس في الريف لغير أهله مذهب أو مقام؟»
قلت: «هذا هو سؤالي … لو كان الناس عندنا يحبون الريف، ويطيب لهم أن يقضوا فيه كل ما يسعهم أن يختلسوه من الوقت؛ لتغير حال الريف، وتكيَّف على مقتضى هذه الرغبة، وصار لغير أهله فيه مذهب ومقام».
وقال: «ربما» وانقطع كلامنا في ذلك، ولكني لم أَكُفَّ عن التفكير فيه، وقد أدرت عيني في شعوب البحر الأبيض، فإذا أكثرها كأهل مصر ليس لهم «غرام» أو «عشق» للريف أو ما يسمى الطبيعة؛ فالروم والطليان والفرنسيون والإسبان كلهم على شاكلتنا: الحضري منهم يبقى في المدينة ولا ينشد الريف أو يحن إليه، والريفي في قريته، يندر أن تنزع نفسه إلى تركها أو التطواف بعيدًا عنها. ولا نكران أن هجرة أبناء هذه البلاد إلى الأقطار الأخرى غير قليلة، وفي مصر وحدها منهم عشرات الألوف أو مئاتها، ولكن الهجرة تجيء عن اضطرار لا عن رغبة، والباعث عليها الحاجة، فلا دخل لهذا فيما أقول عنهم من ضعف ولوعهم «بالطبيعة».
وأكثر الأجانب هنا يتخذون مساكنهم في قلب المدينة ولا يبعدون بيوتهم عن أماكن عملهم بعدًا يكلفهم مشقة أو يجشمهم عناء ونفقة، ما خلا الإنجليز؛ فإن الرجل منهم يكون عمله في شبرا، فيتخذ بيته في أطراف مصر الجديدة أو في الزمالك على النيل، أو في الجيزة على طريق الهرم، ولا يبالي ما يضيع من الوقت في الذهاب والإياب، ولا يحفل ما يكلفه هذا البعد من النفقة. وقَلَّمَا يقضي يوم بطالة في بيته إلا إذا كان مريضًا، وليس بالنادر أن ترى الواحد منهم يحمل في سيارته خيمة وطعامًا وشرابًا يكفيان أيامًا وفراشًا أيضًا للنوم والجلوس، وأدوات للعب، ويذهب بذلك كله إلى السويس مثلًا، ولو شاء لأعفى نفسه من هذا العناء كله، فلن يعدم فندقًا يبيت فيه، ولكنه يضرب خيمته على ساحل البحر أو في الصحراء ويقضي أيامًا ناعمًا بالعزلة والوحدة وبما حوله من وجوه الأرض أو الماء، ويروح يمشي بضعة فراسخ في كل يوم … وقد يكون وحده، فلا يشعر بوحدة ولا تخطئه سكينة النفس، وقد يكون معه غيره، فلا تراه — فيما يبدو لك — شاعرًا بأنس يفتقده في وحدته، فكأن أنسه كله بالمحل لا بالرفقة. ومن المتع التي يحرص عليها أن يكون له بيت أو كوخ — سيان عنده — في مكان ريفي بعيد يذهب إليه كلما وسعه أن يخلو من مشاغل العمل؛ فهو في هذا نسيج وحده، ولا يمنعه المطر أو الإعصار أن يخرج في ثياب السهرة ليتعشى ويرقص ويحيي الليل على أسعد حال، ولا يقعده البرد في بيته كما يقعدنا، حتى في بلاده التي لا أعرف أسخف منها جوًّا، ولا أبعد عن الاعتدال، فهو هناك كعهدنا به هنا.
وأهل الشام على خلاف أهل مصر؛ فإنهم كثيرو الخروج إلى الرياض والبساتين، حتى «قهواتهم» أو «مقاهيهم» — كما يريدوننا أن نسميها — قلَّما تكون إلا في بستان أو كما يقول ابن الرومي:
في ميادين يخترقن بساتيـ
ـن تمس الرءوس بالأهداب
ولا أعرف كما قلت تعليلًا لهذا الاختلاف في الطابع، وأحسب أن اعتدال جو بلادنا على العموم يحمل على الرضى بالوجود ولا يغري بغشيان غيره. ولماذا يشتاق ساكن المدينة إلى الريف وليس في المدينة ما يزهده فيها، ويدفعه إلى الخروج منها، والتماس ما هو أخف محملًا، وأكفل براحة النفس وسكينة الأعصاب؟ وممَّا يساعد على القناعة ويبعث على العقود أن التنوع مفقود؛ فالذي يترك القاهرة لا يتوقع أن يستفيد متعة يخطئها فيها، والمناظر في الريف واحدة أو متشابهة، فلا جبال هناك ولا غابات ولا أحراج ولا غير ذلك مما يحرك الخيال فيحرك النفس، ولا اختلاف هناك يجعل للنقلة لذة ترجى. والريف من مصر قريب فهو معروف غير مجهول، والصحراء حولها من بعض جهاتها فلا موجب للتخيل، ولكن الإنجليزي شأنه غير شأننا؛ فإن جو بلاده دائم التقلب، وهو مع تقلبه السريع سخيف غير مأمون، وقد يكون هذا مما يدفع الإنجليزي إلى اشتياق الريف، ويغريه بتصور سحره، ويبعثه على التماسه ونشدانه، حتى ولو تكررت خيبة أمله فيه.
وأمم البحر الأبيض شبيهة بنا من حيث المزاج، وجَوُّهَا أقرب إلى الاعتدال من جو الشمال، ومن هنا فيما أظن مشاكلتها لنا في هذه الطبيعة، ولست أرى وجوه الاختلاف تؤثر في هذا.
ولا نكران أننا تغيرنا، فكثر بيننا الذين يطلبون الريف أو الصحراء ويؤثرونهما على المدن، ولكنا نفعل ذلك على سبيل التقليد، ومن قبيل المحاكاة، وبفضل التثقيف الحديث، والاتصال الوثيق بالغرب، لا بدافع من الفطرة وحافز من الطبيعة. ومَثَلُنَا في هذا أمم البحر الأبيض؛ فقد ذهبت تقلد أمم الشمال كالإنجليز والإسكندرناويين والألمان، وراحت تتكلف حب الطبيعة حتى لصارت تبدو كأن هذا فيها طباع، وما هو بذاك.