زارني مرة في مكتبي صديق كريم، وكان معي في ذلك اليوم أصغر أطفالي؛ فقد تشبث بي وأبى إلا أن يصحبني، فلم أرَ بأسًا من ذلك، وسأله الصديق بعد حوار طويل لم يعلق بذهني منه شيء: «أبوك مَنْ؟» — قالها هكذا بالعربية الفصيحة — والصبي حديث عهد بتعلم القراءة والكتابة؛ فلم يفهم «من» هذه، وظنها شيئًا معيبًا أو غير لائق وهز رأسه منكرًا، فكرر الصديق السؤال، فقطب الصبي وقال: «توْ توْ» فنظر إليَّ صديقي فقلت: «يا صاحبي إنه يحسب أن (من) هذه مثل قولك «كلب» أو «قط» أو شيء آخر لا يليق في رأيه أن يكونه أبوه، ولو كنت قلت له «مين» بالعامية لفهم وأجابك، وما أظن به الآن إلا أنه وقع في نفسه منك أنك تَسُبُّ أباه، وإني لأخشى أن يحقدها عليك، ولا يكون رأيه فيك بعد اليوم إلا سيئًا، وأكبر ظني أنه سيُحَدِّثُ أمه عنك حديثًا لا يسرك أن تسمعه». وانقضت هذه الحادثة وانطلق الغلام خارجًا ليلعب، فقد سئم الحوار الذي ارتفعنا به عن طبقته. فقال صديقي بحق إنه موقن أن الصبي يشعر بوحشة مع أمثالنا من الكبار لأنه يحتاج إلى صغار مثله يفهمهم ويفهمونه فيسر بهم ويأنس. فقلت له: إني لا أظن أن أبنائي يستوحشون حين أكون معهم؛ لأني أستطيع أن أنزل إلى مستوى مداركهم فأكون معهم كأني أحدهم. فقال: إن أمره ليس كذلك.
وخرج صديقي فذهبت أفكر فيما قال، فسألت نفسي: «لماذا لا نحسن نحن الكبار أن نفهم الصغار كما ينبغي أن يُفهموا؟ إننا لم نجئ إلى الدنيا كما نحن الآن، ولم تلدنا أمهاتنا بأسناننا وشواربنا ولحانا ورءوسنا الناضجة — أو التي نزعمها لغرورنا ناضجة — وإنما جئنا إلى الحياة صغارًا ثم كبرنا شيئًا فشيئًا، ولم تكن طفولتنا قصيرة العمر، بل كانت سنوات طويلات، وإن من الكبار لكثيرين لا يزالون أطفالًا، وإن كانوا قد شابوا وشيَّخوا. وإنا لنذكر حلاوة الطفولة وجمال عهدها، ونحنُّ إليها، ونتمنى لو أمكن أن نرتد إلى ما كُنَّا في أيامها بكل ما حفلت به. ومع ذلك لا نستطيع بعد أن كبرنا أن نفهم الأطفال، ونفطن إلى أساليب تفكيرهم وقد كُنَّا مثلهم. ومع أن الطفولة ليست غريبة عنا ولا أجنبية منا، حتى يستعصي علينا فهمها، فإن صفحتها تمحى من ذاكرتنا كل المحو، فننقلب محتاجين إلى من يشرحها ويفسرها لنا، وبيين لنا ما فيها، ويعلمنا كيف نقرأها ونفهمها.
وأذكر أني — وأنا طالب في مدرسة المعلمين العليا — كنت أضحك فيما بيني وبين نفسي حين أسمع أستاذنا يقول لنا بلهجة الجِد إن علينا أن نعنى بأن ندرس الطفل، وكنت أقول لنفسي: وأي حاجة بنا إلى درس المعروف المفهوم كأنه مجهول أو غامض! فلما كبرت وصار لي ابنٌ أدهشني أني وجدت أني محتاج أن أروض نفسي على النظر إلى الأمور بعين الطفل لا بعيني أنا، ولم تكن هذه الرياضة لا سهلة ولا خفيفة؛ فقد كانت تستنفد صبري ومجهودي معًا، ولكني كنت مضطرًّا إلى ذلك بعد أن شاءت الأقدار ألا يبقى له من أبويه سواي، ولولا ذلك لنفضت يدي من الأمر كله وتركت العبء لغيري.
ومن فرط جهلي بالطفولة وثقل الشعور على نفسي بذلك، أراني أحيانًا أتمنى لو يرزقني الله عشرين أو خمسين طفلًا دفعة واحدة لا لأعذب نفسي بهم، وأطير عقلي معهم، بل ليتسنى لي أن أدرس الطفولة كما ينبغي أن تُدرس على نحو ما سمعت أن العلماء يدرسون ما لا أدري في معاملهم، ولكن الحوائل دون ذاك كثيرة، منها أن المرأة ليست كالقطة أو الأرنبة، ومنها أني لا أستطيع أن أعول كل هذا الجيش من الصغار، ومنها أني خليق في هذه الحالة أن أُجَنَّ فلا أنا درست شيئًا ولا أنا أبقيت على عقلي.
والضرورة تفتق الحيلة كما يقولون، والحاجة أم الاختراع، وقد لجأت إلى وسيلة أخرى أخف محملًا وآمن عافية، وفيها بعد ذلك لهو لا بأس به، وتلك أني أكون مع أطفالي كما يكونون أو كما أراهم يكونون، وكما يبدو لي منهم؛ فأخلع ثوب الكبر والوقار والاحتشام وأجعل من نفسي طفلًا مثلهم، وأحاول أن ألبس هذا الثوب الذي نضته عني الأيام بكرهي ولم تُبْقِ لي منه إلا ذكرى السعادة، وأنا أمرح فيه. ومن العجيب أنَّا لا نذكر إلا أنَّا كُنَّا سعداء به، أما كيف كنا سعداء، وما كان يسعدنا، فهذا ما نتخيله في كبرنا لا ما نعرفه على التحقيق، ولكن استعادة هذا العهد الذاهب عسيرة جدًّا.
نعم أستطيع أن أقلدهم فيما أراهم يصنعون، فأضحك مثلًا بكل جسمي لا بفمي وعيني فقط! وأسقط على الأرض متهافتًا من شدة الضحك كما يفعلون، وأقذف بالكرة بلا حساب أو تقدير فتصيب المرآة أو زجاج الصورة المعلقة أو أنف جالس يستغرقه الحديث الذي يخوض فيه مع جاره فينتفض مذعورًا، ويسبقه لسانه بما لا يُروى وما يجب أن يغتفر له، ونرى ذلك — نحن الأطفال — فيترامى بعضنا على بعض من فرط السرور والجذل، وتتصادم رءوسنا ثم نفطن إلى غضب الذي أُصِيبَ أنفه، وندرك أن هذا الغضب قد يكلفنا ما لا نحب، فنذهب نعدو ويد الواحد مِنَّا على كتف صاحبه أو ممسكة بذيل ردائه، ونتزاحم ونحن خارجون من الباب الذي لا يتسع لنا جميعًا فيقع أحدنا ويتعثر الباقون فوقه، ويصيح المتأذُّون من الضجة التي أحدثناها وينهروننا ويزجروننا عن هذا العبث المزعج الذي يفلق الرءوس، ويعرض الأنوف والعيون للإصابات المباغتة، فتخفت أصواتنا ويلصق بعضنا ببعض في ركنٍ من الغرفة الثانية، ونكمن وراء خزانة أو غيرها ممَّا يتفق وجوده، ونصمت برهة، ثم يشق علينا السكوت، وتمل ألسنتنا الهدوء، ويتذكر أحدنا ما أفاد من المتعة حين رأى المصاب في أنفه يصرخ ويرفع يديه إلى وجهه ويصيح باللعنات الحِرَار والتهديد المرعب. يذكر أحدنا ذلك، فيغلبه الضحك فيكركر، ويساوره الخوف مما هُدِّدَ به، فيتناول بعض ثوبه ويضعه على فمه ليخفض صوت السرور، ولكنا نرى ذلك منه فيعدينا فنفعل مثل ما يفعل، ونصبح نحن الثلاثة أو الأربعة كأننا ثلاثة قطط أو أربعة، قطط صغار وليدة من فرط التداني والاختلاط، فهذا وجهه مدفون في صدر ذاك، وذاك رأسه تحت ذقن الثالث، والثالث وجهه إلى الحائط وهو يغت ويغالب ضحكة، والرابع قاعد على الأرض ومُخْفٍ وجهه في طيات الثياب.
وأحيانًا أكون مع الأطفال قطارًا يسير متعرجًا بين الكراسي والمقاعد والأثاثات المختلفة، ولا يخلو سير هذا القطار الآدمي من حادثة فيكسر كوبًا أو إبريقًا أو يقلب شيئًا، وقد تقع الحادثة له فيتعثر الذي هو القاطرة وتَنْكَبُّ المركبات على جسمه، ولكن الحوادث — كائنة ما كانت — لا يراق فيها دم، إلا دم إصبع مجروح أحيانًا، ولا تمنع البشر والضحك، بل لعل هذه الحوادث هي التي تجلب السرور ولا تكون المتعة إلا بها.
أفعل ذلك وغيره وأقدر عليه، ولا يحس الأطفال الذين ألاعبهم وأغالط نفسي بأني أحدهم ومثلهم، أن هنالك أي فرق بيني وبينهم، ولكني أنا أحس بالفرق الذي يخفى عليهم. ومهما بلغ من استغراق اللعب لي فليس يسعني أن أنسى أني كبير وأني مقلِّد ليس إلا، ولو نسيت لأذكرني التعب الذي سرعان ما يحل بي، وصدري الذي يعلو ويهبط كموج البحر، ودقات قلبي السريعة، وأنفاسى المنبهرة، فلا يلبث ذلك كله أن يردني بعنف وغلظة إلى ما أتجاهله من الحقائق، ولو لم يكن هناك شيء من هذا لكان حسبي من الفرق أن الأطفال يختلفون عني في التفكير والنظر والتقدير، وأنهم يفعلون ما يفعلون بفطرتهم، ولأن حيويتهم كلها في أعضائهم وأنى أجاريهم متكلفًا، وهم يسرون بما يفعلون، أما أنا فسروري بمبلغ في التقليد والتمثيل لا في الفعل نفسه؛ أي إن سروري بمحاكاتهم ومجاراتهم فني في الحقيقة، أما هي فالأمر عندهم طبيعي، وإفادة السرور راجعة إلى أنهم يرسلون نفوسهم على سجيتها.
ولست ألاعب الأطفال لأَسُرَّهُم فقط — وإن كان هذا وحده كافيًا لتهوين ما أتكلفه من العناء والجهد — ولكني أحب أن أدرس الطفولة بمحاولة الاندماج مع الأطفال وتمثُّل إحساساتهم، وتصور بواعثهم على قدر ما يتيسر ذلك لي، وبمعالجة استرداد القدرة على الصدور عن وحي الفطرة التي لا يكبحها العقل أو التهذيب أو العرف أو غير ذلك من اللجم التي يحسها الكبار كلما هَمُّوا بفعل شيء تغريهم به الفطرة.
ولدرس الطفولة مزايا كثيرة هي السر في ولعي بهذا الموضوع: منها أن الطفل في بلادنا أشقى عباد الله. وإنه ليخجلني أن أقول إننا نعذب الأطفال ونقمع في نفوسهم الجديدة روح الطفولة ونمنعها أن تتفتح وتزهو وتربو، وأَحْرِ بنا إذا فهمنا الطفولة أن نحسن سياستها ونسعدها ونجعل عهدها حميدًا وتمهيدًا صالحًا لعهد الشباب، وأنا موقن أن خير الآباء ليس هو الذي يرضى عن أبنائه أو عما يعتقد فيهم ويظن بهم — فقد يكون مخدوعًا وهذا هو الأغلب — وإنما أحسن الآباء هو الذي يرضى عنه أبناؤه ويفرحون به ويباهون ويعتزون.
فسياستي مع أطفالي هي أن أسعى لاكتساب رضاهم عني لا أن يكونوا بحيث أرضى أنا عنهم، والفرق دقيق ولكني أظنه واضحًا. وقوام هذه السياسة أن تدرك أن للطفل نفسًا غير نفسك، وأن لها استعدادًا لعله غير استعدادك وأن مهمتك أن تعين الطفل على إنماء مواهبه الكامنة والانتفاع بهذا الاستعداد المضمَر، وأن توجد الفرصة لإبراز ذلك، لا أن تأخذ عليه الطريق وتسده، وبعد أن يبدو لك ما يشي بالاستعداد تسرع في توجيهه وتقويته، ولا يمكن أن يتيسر ذلك إلا إذا تركت للطفل حريته، وكيف يمكن أن تعرف ما يخفى من أمره إذا كنت تُلْزِمه حالة معينة، أو تحتم عليه مسلكًا لا يجوز له أن يعدوه أو ينحرف عنه؟ وكيف ترجو أن تكون له شخصية متميزة بخصائصها إذا كنت تأبى عليه الاستقلال والحرية؟ إن تربية الطفل هي في الحقيقة تجربة يجريها المربي ولا سبيل إلى الاطمئنان إلى صحة النتيجة إذا كنت تبدأ برأي معين وفكرة لا تحيد عنها، وسلسلة الاختبارات المتعاقبة هي التي تشير إلى اتجاه النفس، وتدل على ناحية الاستعداد المجهول؛ فلا بد من ترك الطفل حرًّا، ومن تعويده الاستقلال في النظر والعمل وفي تلقي وقع الحياة، وفي طريقة استجابته لهذا الوقع. ولا نكران أن الرقابة لا معدى عنها، ولكنها يجب أن تكون بحيث لا يشعر بها الطفل ولا يتأثر بها. وكذلك ينبغي أن يكون التوجيه حين يجيء وقته، وإلا فقد الطفل استقلاله وخِيفَ أن يكون قد اتَّجَهَ حيث أردت له لا حيث يدعوه استعداده الشخصي.
ومزية أخرى هي أن الطفل يمثل الأدوار التي اجتازتها الإنسانية والمراحل التي قطعتها كلها في تاريخها الطويل، وصحيح أنها تكون فيه — أي في الطفل — مختزلة جدًّا، ولكن المرء يستطيع أن يفطن إلى بعضها وإن كان يفوته أكثرها، وحسبي هذا القدر لئلا ندخل في مباحث علمية لا قدرة لي عليها.
ومزية ثالثة لا يشق عليَّ الكلام فيها ولا يثقل فيما أرجو على القارئ، وتلك هي أن الطفولة غرائز ساذجة وعواطف وإحساسات فطرية لم تهذب ولم تصقل، ولكنَّا بالتربية نعوِّد الطفل أن يكبح شهواته ويضبط أهواءه ويضع لنفسه اللجم والقيود، وهذا شبيه بما يصنعه المجتمع بنا نحن الكبار. وقد يعلم القراء — أو لا يعلمون فما أدري — أن سبيل المدينة أن تتخذ من النظم الاجتماعية مجاري تتدفق فيها العواطف والغرائز الإنسانية الساذجة الفطرية. مثال ذلك أن الحب هو الذي يرجع إليه الفضل في نظام الزواج الذي صلح به أمر المجتمع إلى الآن؛ ذلك أن الرجل كان فيما خلا من عصور الاستيحاش تأخذ عينه امرأة فتروقه فيخطفها، أو يستحوذ عليها بالقوة، أو غير ذلك من الوسائل، ويستأثر بها ويقاتل دونها ما دام راغبًا فيها، ثم يدعها أو يبقيها بعد الفتور عنها إلى أخرى تستولي على هواه، وكان الأمر كله فوضى ولكنه انتظم بالزواج، فلا خطف الآن ولا قتال ولا عنف. وقد احتفر الرقي المجرى الاجتماعي فتدفقت فيه الحياة من هذه الناحية، وكذلك الوطنية ليست في مَرَدِّ أمرها إلا مظهر أنانية وأثرة، ولكن نطاق الأثرة اتسع فشمل الجماعة المتماثلة كلها بعد أن كان قاصرًا على القافلة الصغيرة مثلًا أو على الفرد قبل ذلك وهكذا إلى آخر ذلك، وما من نظام اجتماعى إلا والأصل فيه غريزة من الغرائز الساذجة التي لم تهذب ولم تصقل.
ونحن نصنع بالطفل ما تصنع بنا الحياة المدنية، نعلمه كبح الغرائز ونروضه على ضبط النفس وننشئه على إدراك الحدود والواجبات، ونعده لحياة الجماعة المنظمة التي لا يسمح فيها بإرسال النفس على السجية في كل حال بغير كابح أو رادع أو ضبط.
وشيء آخر لا سبيل إليه إلا الطفل وذاك من أراد أن يعرف حقيقة الإنسان فليتأمل الطفل، وأنا أومن بأن الإنسان مخلوق لا شريف ولا كريم ولا خيِّر، ولا فيه خصلة واحدة من خصال الخير، وأنه لا يعرف لا خيرًا ولا شرًّا، ولا فضيلة ولا رذيلة، وإنما يعرف نفسه وأهواءها وشهواتها وما يحسه من رغباتها، وهنا موضع التحرُّز من خطأ؛ فأنا لا أقول إن الإنسان خيِّر بطبعه ولكني لا أقول إنه شرير بطبعه، وسبب ذلك أني لا أرى الغرائز الطبيعية لا خيرًا ولا شرًّا، وإنما هي غرائز طبيعية وكفى، وعقلي لا يسمح لي أن أستنكر الفطرة التي بنينا عليها. ولا حاجة في الحقيقة إلى الرجوع إلى الطفل للاستدلال على أن الإنسان بفطرته خير أو فاضل أو كريم إلى آخر هذه المعاني الحسنة؛ فإنه يكفي أن يفكر الإنسان في هذه الشرائع والقوانين وما إليها، وكلها حَضٌّ على الخير ونهي عن الشر. ولماذا يحتاج الإنسان إلى كل هذا الحض على الخير والتزيين له والتحبيب فيه، وكل هذا الزجر عن الشر والتخويف منه والتهديد بالعقاب عليه إذا كان بفطرته خَيِّرًا عزوفًا عن النكر والسوء؟
ولكن الطفل مع ذلك أبرز مثال محسوس لحقيقة الفطرة الإنسانية، هاتِ طفلًا وأعطِه عصفورًا وانظر ماذا يصنع به. يربط رجله ويشد عليها ولا يبالي ألمه، ويروح يطوح به ذراعه مسرورًا بالدائرة الوهمية التي يرسمها به في الهواء، غير عابئ بما يكلفه ويحمله من الأذى، أو يقبض على عنقه ويحبس أنفاسه ثم يلقيه على الأرض، ويغتبط بأن يراه منطرحًا على جنبه ورجلاه إلى فوق، وهو لا يحس أن هذه قسوة لأنه لا يعرف لا القسوة ولا الرحمة، وإنما يعمل ما يفيده السرور الذي يطلبه والمتعة التي يشتهيها.
وتعطيه قطعًا من الحلوى ويجيء من يطلب منه واحدة، فإذا كنت لم تعلمه ما نسميه الأدب فإنه لا شك يضم يده الصغيرة عليها، وقد ينثني فوقها ليحجبها عنك، ويمنعك في ظنه أن تأخذ منها ما طمعت فيه.
وتكون في يدك موزة أو تفاحة أو ما يشبهها من الفاكهة، فإذا كنت لم تَرُضْه على كبح النفس، فستراه يشب ويمد كلتا يديه إلى ما في يدك ويصيح بك أن هاتها، واحرم نفسك وأعطني.
وتكون قد وعدت أخاه بشيء إذا حفظ درسه مثلًا فيحفظه فتهدي إليه ما وعدته، ويراك أخوه فيغضب ويغار وينقم منك أنك اختصصت أخاه دونه بشيء، ويدعوك أن تأخذ من أخيه وتعطيه هو، ويسره أن تفعل ذلك ولا يبالي أخاه ولا يحفل أنه خطفت من يده الهدية الموعودة، بل يروح يخايله بها ويكايده ويغتبط بأن يراه منغصًا محرومًا دونه.
ولا شكر على صنيع جميل، ولا حفاظ لعهد، ولا وفاء ولا ذكر. إنما له الساعة التي هو فيها، والشيء الذي يحس أن نفسه تطلبه، وفيما عدا ذلك على كل شيء وكل إنسان ألف سلام.
قد يقال إن هذا من الجهل وقلة الإدراك، فأقول: إني أتكلم عن الأصل قبل التهذيب والصقل. أما الإدراك فهو كالرقي الذي وصل إليه الإنسان على الأيام وبعد الحقب الطويلة، وقد أسلفت أن الطفل يمثل الأدوار التي مَرَّتْ بالإنسانية من بدئها إلى حاضرها؛ فأنت ترى في سنة من عمر الطفل اختزالًا لما قضت الإنسانية دهورًا ودهورًا طويلة وهي فيه من الحالات. وأما التعليم والتهذيب فهذه هي اللجم والأَعِنَّة التي نضعها لضبط هذه الغرائز وكبح العواطف وتوجيهها إلى المجاري التي احتفرت على الأيام، وتحدرت فيها حياة الجماعة المنتظمة المهذَّبة، واللجام طارئ، فإذا كان يكبح بما يشد ويصد فليس معنى هذا أن ما صار إليه الأمر بعدها هو الذي كان قبلها.
ومع ذلك هل نحن الكبار المثقفون المهذَّبون المصقولون خير من الأطفال الصغار؟ وللجواب عن هذا السؤال أرجو أن يسأل القراء أنفسهم ماذا يكون الحال — حال المجتمع — لو أَمِنْتُم عقاب الله وسطوة القوانين وحكم العرف؟ والقوانين لا تعاقب على بعض الرذائل مثل الكذب والخداع والنفاق، فانظر من الذي لا يكذب أو يخادع أو يداهن وينافق — أحيانًا كثيرة على الأقل؟ أظن أنه لو أمن الناس البطش والعقاب لما بقي شيء لا يجترحونه.
وتعال إلى الرجل الساكن الوقور الرزين الذي يملك زمام أعصابه ولا يدعه قط يفلت من يديه، وادْنُ منه وهو بين الناس والطمه على خده لطمه قوية، ثم انظر ماذا يبقى من صقله وسكون طائره ووقاره ومن هذه القشرة التي كسته المدنيةُ وزانته بها؟
وأوجز فأقول إن الإنسان يرتد إلى طباعه الفطرية إذا أوجدته في حالة تسمح لهذه الطباع بالظهور والتغلب على لجم المدينة، مثل الجوع أو الغضب أو الألم أو الخطر على الحياة أو السكر؛ فليس الطفل وحده هو الذي يشهد أن الإنسان في الأصل لا كريم ولا ذو مروءة أو شهامة أو غير ذلك، وأنه إنما يكون كذلك اكتسابًا وبالدربة والعادة وبفضل الرغبة والرهبة وغيرها ممَّا يدفع إلى الحرص على المصلحة الذاتية؛ ومن هنا كانت أهمية العناية بالطفل، فما تُرِكَ طفل وشأنه بغير عناية وتوجيه إلا فسد وصار شريرًا وامرأَ سوء. وهذه دليل آخر على أصل فطرة الإنسان، وليس معنى هذا أن أصل فطرة الإنسان سيئة، وإنما معناه أن عوامل ما نسميه الشر في الدنيا أقوى وأشد إغراء، وأعظم استيلاء على النفس، وأن الخير مجعول لمصلحة الجماعة ومصلحة الفرد ضمنًا، وليس أقدر من الأطفال على التخيل، ترى الواحد من الأطفال يمشي القهقرى بحذر فلا تفهم، وتجده يحشر نفسه بين كرسيين ثقيلين ثم يعجز عن التخلص، ويضيق صدره فيصيح بك، أو يبكي فتنهض إليه وتسأله عن الخبر، فيقول لك إنه كان يدخل السيارة في الجراج فانحشرت وانكسر السلم، ويكون معنى هذا أنه عد نفسه سيارة واستولت عليه هذه الفكرة، فهي تستغرقه وتذهله عن كل شيء، فلو كلمته لما سمع، وتراه مرة أخرى يشير إلى الهواء ويكلم من لا وجود له ويدعوه أن ينزل، فلو كان رجلًا لظننته قد جُنَّ، ولكنه طفل يتصور أن في الجو طيارة يحادث ربانها ويدعوه إلى النزول ليركب معه وهكذا.
وللطفولة أحزانها كما أن لها مباهجها ومسراتها، ولكن المزية أن الأحزان أو الهموم لا تكون إلا هموم هنيهة قصيرة تزول وتمحى، ولا يبقى لها ذكر متى عرض شاغل آخر، ويعيش المرء مِنَّا ما يعيش ويبلغ من العلم والعرفان والتجربة والفطنة ما يبلغ، ولكنه لا يستكبر أن يتمنى أن يرد على هذه الطفولة الذاهلة، فإذا كان للسعادة معنى أو كان لها في الدنيا وجود، فهي في عهد الطفولة ولا شك.