نشرت لي «مجلة الرسالة» الغراء صورة وصفية لفتاة في ريعان الشباب لا تبرح بيتها، ولا تغادر شُرْفَتَها، ولا تخالط غير أهلها، فيدفعها الملل إلى ضروب العبث البريء، وقد تضمَّنت الصورة كلامًا عن السفور، وأن الفتاة المصرية عرفته وألِفته، ولكنها لم تعرف الحياة الاجتماعية، فهي تخرج مكشوفة الوجه، والذراعين أحيانًا، والصدر إلى النهدين كذلك، وتكلم سائق الترام وموظف المتجر، ولكن الحياة الاجتماعية التي يمهد لها السفور، لا تزال شيئًا منكرًا لأن بيوتنا خليط من أجيال غير متجانسة، وقد راض أهل الجيل السابق أنفسهم على السفور، ونزلوا على حكم الزمن فيه، غير أنهم لم يستطيعوا — ولهم العذر — أن يحملوا أنفسهم على تقبُّل النتائج الطبيعية لذلك. ومن هنا ترى اجتماع الحرية والحَجر، والسفور والحجاب في آنٍ معًا، وفي البيت الواحد؛ فالأب يسمح لفتاته أن تبرز في الطريق سافرة الوجه، ولكنه خليق أن يثور ويحرق الأرم لو رآها تطعم شابًّا من غير أهلها الأقربين، ولا يخطر على بال الفتاة أن تقول لأبيها أو أخيها: «اسمح لي أن أقدم لك فلانًا صديقي.» وليس يخفى على أن هذا مألوف ولا عيب فيه، عند الذين ينتمون إلى ما يُسَمَّى «الطبقة الراقية» أو «الأرستقراطية»، ولكن كلامي على السواء لا على القلة، وعلى العموم لا على هذا الخصوص.
وقد زارني صديق قرأ هذا المقال، أو هذه الصورة الوصفية، وأخذ يُجَادِلُنِي في رأيي، أو يستوضحنيه على الأصح؛ لهذا رأيت أن أشرح رأيي هنا عسى أن يكون هناك غيره من الراغبين في هذا البيان.
والذي أريد أن أقول هو أن السفور لم يؤدِّ في مصر إلى الحياة الاجتماعية على نحو ما أدى إليه في الغرب؛ لأن تربية الفتاة المصرية لا تزال قوامها التخويف من عواقب الاتصال بالرجال الأغراب، فالفتاة تنشأ عندنا على اعتقاد أن الرجل مخلوق يُخاف ويُتَّقَى، لا على أنه نِدٌّ لها، أو هي نِدٌّ له، وأن لها في نفسها مثل الحق الذي في نفسه، وأنها يسعها أن تحتفظ بهذا الحق كما يسعه بلا فرق، ولولا أن هذا هو قوام التربية عندنا لما كان ثَمَّ أي دَاعٍ للفَرَق من الاختلاط الاجتماعي، والفتاة الغربية تُرَبَّى على خلاف ذلك ونقيضه، فهي ترى الرجال وتألفهم، ولا تستغرب وجودهم معها، ولا تلح عليها الخواطر المتصلة بالإحساس الجنسي حين تسايرهم أو تجالسهم؛ لأن الرجل عنصر مألوف في حياتها مثل المرأة، وقد ألفت حريتها واعتادت استعمال حقوقها كما ألف الرجل، فالخوف لا يساورها بل لا يجري لها في بال، حتى الخلوة لا تفزعها، وإن كانت تدرك بفطرتها أو ذكائها أو من قرائن الأحوال، ما عسى أن يكون دائرًا في نفس الرجل؛ لأن معرفتها بحقوقها يطمئنها ويقويها ويجعلها موقنة من قدرتها على المقاومة إذا شاءت.
والفتاة المصرية على خلاف ذلك ونقيضه، وقد شبت على أن الرجل قَوِيٌّ مخوف، وأنها لا تملك من أمرها شيئًا إذا وقعت في يده، وأن الاتصال به من أجل ذلك لا يكون إلا سيئ العاقبة غير محمود المَغَبَّة. وهذا الاعتقاد يُفقدها الشعور بحقها، ويسلبها الاقتناع بحريتها في التصرُّف في أمرها، ومثل هذه التربية السخيفة لا تكون لها إلا نتيجة واحدة، هي سرعة تنبيه الإحساس الجنسي في نفس الفتاة — ونفس الرجل أيضًا — كلما اجتمع اثنان من الجنسين، ونتيجة أخرى لهذا هي إنه إذا جلست فتاة إلى شاب، كان أبرز ما تشعر به الفتاة هو ما تعتقد — بطبيعة شأنها — أن الشاب ينشده من أنوثتها، والشاب مثلها لا يسعه إلا أن تتجه خواطره إلى هذه الناحية، ولما كان اجتماع شاب بفتاة يُعَدُّ خلسة — لأنه حالٌ غير معترف به — فإن الطبيعي أن يسعى كل منهما للفوز بأكبر حظ من المتعة في أوجز وقت لندرة فرصة الاجتماع، ومخالفة ذلك للعرف المقرَّر والتقاليد السائدة التي تباعد بين الرجل والمرأة.
ولما كانت الفتاة قد نشأت على الإقرار بضعفها وقوة الرجل، وعلى ضعف الثقة بحقها وحريتها؛ فإن الخلوة لا تكون مأمونة العاقبة إلا في الفلتات المفردة.
وأساس الحياة الاجتماعية في الغرب أن للمرأة حقًّا في نفسها مثل حق الرجل في نفسه، وحرية في التصرف كحريته، وأن الأمر كله قد نظمه العُرف، وأقامه على حدودٍ معروفة وقواعِدَ لا شذوذ فيها ولا اضطراب، ولا وجود لشيء من ذلك في مصر، وكل ما حدث من التطور عندنا لا يتجاوز الثياب، ولا يمتد إلى النفس وإحساسها وخوالجها، ولا يرتفع إلى الرأس وما يدور فيه. كانت المرأة تضع على وجهها البرقع أو النقاب فاستغنت عنه، وبرزت به غير مستور، وكانت تلف على رأسها خرقًا سوداء كما تُلف العمامة، فرمتها واعتاضت منها القبعة، أو آثرت أن تترك شعرها عاريًا، وكانت تختفي في ملاءة فألقتها، واستبدلت بها المعطف، وقد تكتفي بثيابها، ثم لا شيء غير ذلك. أما تفكيرها فظل كما هو على الرغم من التعليم، وأما إحساسها نحو الرجل فلم يتغير منه شيء، بل بقي كما كان أيام الحجاب. ومدار هذا الإحساس كما أسلفت، هو أنها فريسة الرجل، والقنيصة التي يتربَّص لها، فشعورها هو شعور الفريسة حيال الوحش الذي ورثت من سلسلة آبائها الخوف منه، والإيقان بسطوة عليها إذا ساعفته الفرصة، كما يَرِثَ الفأرُ خوف القط ويضطرب إذا رآهُ، فتخذله أرجله فيقف في مكانه لا يريمه، وقد أيقن من الهلاك. وكل ما في حياة الفتاة يقوي في نفسها هذا الإحساس ولا يضعفه ولا يحل محل الشعور بالقوة والاستقلال والحرية، تقف في الشرفة أو تطل من النافذة فيراها أبوها أو أخوها فيزجرها ويقول لها ارتدِّي عن النافذة أو ادخلي الغرفة؛ فإني أرى فلانًا صاحبي يمشي على الرصيف، وقد يراك إذا ظللت مطلة أو واقفة حيث أنت.
ويسمعها تكلم جارها، فينهرها ويقول لها: «عيب»، وليس الكلام هو العيب، وإنما العيب الذي يعنيه الأب أو الأخ — والذي تدركه هي أيضًا — ما يخشى أن يؤدي إليه الكلام؛ فهنا وثبة من الكلام الذي لا بأس منه في ذاته، وبمجرده إلى مطالب الغريزة الجنسية دفعة واحدة بلا تدرُّج، ومعنى الزجر عن الكلام مع الرجل الغريب أنه باب يؤدي مباشرة وبلا شك إلى ما تقتضيه المطالب الجنسية، ومعناه أيضًا أن الفتاة التي تكلم الشاب الغريب لا يسعها إلا أن تنتهي إلى هذه النهاية وإلا لما كان هناك موجب للخوف والزجر.
والغريزة الجنسية أقوى في نفس المرأة بطبيعة الحال منها في نفس الرجل، فإذا جاءها هذا المدد من التربية السخيفة اضطرمت جدًّا، واستولت على نفس الفتاة أَتَمَّ استيلاء، وصارت هي الأول والآخر، والظاهر والباطن، ولست أعرف أسوأ من هذه النتيجة ولا أخبث.
وليست كذلك التربية الغربية؛ فإن قوامها — كما قدمت — الاعتراف بالحقوق والحريات والنظام، وإذا كان لا تفريق عند القوم بين الجنسين؛ فإن في وسعهما أن يلتقيا وأن يُرْضِيَا غرائزهما إرضاءً كافيًا بالحديث والنظر والمجالسة، وأن يعتادا الاكتفاءَ بذلك، وأن يألفا ضبط النفس، وكبح الأهواء والمآرب، وأن يمنعا أن تجمَح بهما، وهذه هي مزية الحياة الاجتماعية عند الغرب، أما في مصر فقد فقدنا الحجاب — ولا أسف عليه — ولم نعتض منه هذه المزايا التي تنطوي عليها الحياة الاجتماعية في الغرب، والعلة هي سوء التربية وفساد أسلوب التنشئة، وقد صار السفور لهذا السبب باب شر مفتوحًا على مصراعيه، وأحسب أن لا علاج لذلك إلا بإصلاح أسلوب التربية وتعليم الفتاة حقوقها وحرياتها وإقناعها بها، واقتلاع خوفها الموروث من الرجل.