أكثر ما يقعد بالإنسان عن الطلب أو يصده عن السعي أو يصرفه عن الإقدام وَهْمٌ لا حقيقة، وقَلَّ أن يقدم الذي يطول تفكيره ومشاورته لنفسه؛ ويندر أن يفوز بالطيبات في هذه الدنيا إلا الجسور أو «الفاتك اللهج» كما يقول بشار، أي الذي لا يتردد ولا يضيع الوقت والفرص في الموازنات والمعادلات وحساب العواقب والمغبات.
تكون مع المرأة التي تحبها، فتحدثك نفسك أن تَبُثَّهَا ما تجد، أو على الأقل أن تُثني على جمالها أو ذوقها في اختيار ثيابها؛ فتتردد مخافة أن يسوء وقع ما تقول في نفسها وأن تعد ذلك منك تسحبًا واجتراء عليها، فتُحْجِمَ، وتمتعض هي؛ لأنك خيبت أملها فيك ورجاءها عندك. وقد لا تحب المرأة الرجل، ولكنه لا يسوءها منه أن تعرف أنه يحبها، ولا يثقل عليها أن يثني بما يعلم، وما يتخيل أيضًا، والمرأة تنتظر من الرجل أن يشعر بجمالها وأنوثتها قبل أن يشعر بعقلها أو علمها أو أدبها أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وكثيرًا ما تقرأ لي الفتيات ما يكتُبْنَ أو ينشدنني ما ينظمن، حتى إذا فرغن من التلاوة تعمدت أن أهمل ما سمعت منهن، وذهبت أَصِفُ لهن ما وقع في نفسي من صوتهن وهيئتهن وهُنَّ يقرأن، وكيف كان النسيم يعبث بذلاذل الثوب، وكيف أن خصورهن كن يغرين بالتطويق، وشفاههن وهي تتحرك وتلتقي وتفترق، وتختلج من فرط التأثُّر بالمعاني المصورة في الكلام، تحمل على اشتهاء القبلات الطويلة، ولا أراهن يغضبن لذلك أو يتجهمن، أو حتى يتكلفن العبوس والقطوب، بل تشرق وجوههن ويشيع فيها البِشْرُ، وتومض عيونهن وَمِيضَ الجذَل والاغتباط والرضى، وأنا أفعل ذلك لأَسُرَّهُنَّ، وأشرح صدورهن، ولأهرب من إبداء الرأي في كلام لا أرى له قيمة أو وزنًا، فننتقل بسهولة إلى حديث آخر نخوض فيه، وتطوى الورقات وتدس في الحقائب، ونحن نَسِحُّ بالكلام، ثم ينصرفن راضيات مسرورات شاكرات، وأبقى أنا أو أذهب، ولا أكون قد رددت نفسي على مكروهها.
وقد جربت الناس فلم أَجِدْ ما يريح مثل الاجتراء عليهم، كنت في بعض ما مَرَّ بي مضطرًّا إلى الاتصال في عملي برجل سريع البادرة، عظيم الغرور، متقلِّب الرأي، فلا راحة لإنسان معه، وآثرتُ الملاينة في أول الأمر وقلت: أسايره خطوة أو خطوات لأَجُرَّهُ باللياقة والكياسة إلى حيث أريد من حيث لا يشعر هو. فكان يفطن إلى حيلتي في بعض الطريق فينبو في الزمام، فخطر لي أن المنطق والحُجَّة لعلهـما أجدى، فصرت أجادل بالتي هي أحسن، ولكن بالبرهان والبينة، فكان يتململ ويتأفَّف، ولا يكتم ضجره مني، وكراهته للجاجتي، فضاق صدري يومًا، وخرجت معه عن طوري — على ندرة ذلك جدًّا — ولم أستطع أن أملك زمام نفسي، فأسمعته من رأيي فيه ما أعتقد أنه أوجع ما سمع في حياته، فما راعني إلا استخذاؤه، وإلا أنه أذعن وراح بعد ذلك يتقي أن يثير غضبي ويخشى بادرتي أشد الخوف؛ فاسترحت.
وقد يظن القارئ أني أشير بالتوقح على الناس وسوء الأدب معهم، وما أريد شيئًا من هذا، وإنما أقول إن احترامك لغيرك لا ينفي أو يمنع أن تحترم نفسك، ومن احترام النفس أن تكون صريحًا وحازمًا، والصراحة والجرأة ليس معناهما قلة الأدب؛ فإنك تستطيع أن تذهب في الصراحة إلى أبعد مدى، وأن تحتفظ مع ذلك بالأدب. ومتى عَرَفَ الناس فيك الصراحة وأَلِفُوا منك الشجاعة، اقتنعوا بذلك ووطَّنُوا أنفسهم عليه، وأَعْفَوْكَ من كثير ممَّا تكره.
وقد قص عليَّ بعضهم حكاية شاب اتخذت منه زوجته دابَّة، فهو لا يفعل إلا ما تأمر، ولا يخرج أو يدخل أو يقوم أو يقعد أو يأكل أو يشرب إلا إن أذنت له، وقيل لي إنها هي التي تنتقي له ثيابه، وتختار له ما يوائمها من قميص ورابطة وحذاء إلى آخر ذلك، وتأمره فيصادق هذا ويخاصم أو يعادي ذاك، ويصل فلانًا ويقاطع فلانًا، فعجبت وسألت محدِّثي: وماذا يخيفه منها؟ أهو يخشى أن تأكله إذا اعترض أو أبى أو تمرد على هذا السلطان؟ فهز محدِّثي رأسه ولم يستطع أن يذكر لي شيئًا معقولًا. وما أزال إلى هذه الساعة عاجزًا عن تصور ما تستطيع هذه المرأة أن تصنع إذا انتفض زوجها على هذا الاستعباد؟ وهي وقفة واحدة يقفها الرجل فلا يسع امرأته إلا أن تلتزم حدها، وتترك له حقه في نفسه، وهذه الوقفة لا تحتاج إلى ثورة، ولا تتطلب أن تقوم قيامة البيت، بل لعل الهدوء أحجى، وضبط الأعصاب أجدى. وما أظن امرأة تُكْبِرُ رجلًا يكون عنانه في كفها الرَّخْصِ، ولا شك أنها لا تنفك تحتال لتُخضعه من حيث لا يشعر ولا يدري، والرجل الرشيد يدرك ذلك ولا يخفى عليه أنها تدور من ورائه لتحمله على ما تريد؛ فيلين ليُرضيها ويسعدها بالشعور بالنجاح، ويجعلها بذلك ألين في يده من ناحية أخرى.
وحياة الرجل والمرأة مناوشات مستمرة، ولعلها أشبه شيء بالحرب التي تشنُّها العصابات المتحصنة في رءوس الجبال على الجيوش المُنَظَّمَة. وقدرة الرجل وسطوته معترف بهما، ولكن المرأة لا تُقِرُّ لهما الإقرار التام، ولا تزال تختبئ وتطلق قذيفتها. وخير للرجل وأجلب لراحته أن يدع لها فرصة كافية لإصابة الهدف، فتسكن نفسها وترضى عن حالها، وإلا التمرُّد الصريح، ولكنه ينبغي أن يكون له وجود وكرامة، وإلا خسر احترامها له، واحتفاظُه بكرامته واستقلاله وحريته لا يكلفه إلا أن توقن هي أنه لا خير في محاولة إخضاعه لها.
وقد زاولتُ التعليم عشرَ سنين فما أذكر أني احتجت يومًا أن أعاقب تلميذًا، ولو تمردوا عليَّ لما وسعني شيء فإني واحد وهم كُثر، ولو انتفضوا على نظام المدرسة لما استطاعت أن تُكرههم عليه، ولكن التلميذ يتوهم البأس والشوكة والسطوة والقوة، ويرهَب ما يتوهم، ويطول عهده بذلك فيتقرر في نفسه. وقد كنت وأنا معلم لا أُحجم عن مصارحة تلاميذي بأن سلطان المدرس خيالي ولا حقيقة له، وأنهم لو شاءوا لتناولوني وقذفوا بي من النافذة، وقذفوا بالمدرسين جميعًا وبالناظر أيضًا ورائي، وكنت أراهم يبتسمون لما يسمعون مني، ثم يعودون إلى ما ألفت منهم من حسن الإصغاء وشدة الحرص على النظام.
وكبر ابني وصار أطول مني قامة، وأنا الآن كهل وهو شاب، وقد توخيت في تربيته أن أدعه حرًّا، وأن أجعله يشعر باستقلاله، ومع ذلك لا أراه يجترئ الاجتراء الذي أتوقعه وأريده يسرني أن أراه منه؛ لأنه يهاب ذلك السلطان الذي درج على إكباره والإقرار له منذ الصغر، فهو لا يزال طفلًا بالقياس إليَّ فيما أرى، وإنه لكذلك إذا اعتبرنا التجربة والعلم وما إلى هذا، ولكن وهم الأبوة أو سلطانها — أو لا أدري ماذا — يصده حتى عمَّا لا بأس منه ولا ضير، ولا عيب فيه، ولا خوف من الزجر عليه. وأنا أيضًا كنت طفلًا — كما لا أحتاج أن أقول — وكان هذا شأني؛ لأن للعادة سلطانها.
ولو جرب الناس الشجاعة والإقدام لأدهشهم أن ما كانوا يخافونه أو يتقونه أو يتوقعونه لا وجود له، وأنه لم يكن سوى وهم ليس إلا، وأكرر أني لا أحض على تجاوز الحدود، فليس من حسن الأدب أن يكون المرء جبانًا أو ذليلًا، ولا من سوئه أن يكون عارفًا بحقوقه، حريصًا عليها وجريئًا في سعيه، وصريحًا في قوله، أي مخلصًا لنفسه.