لقيت مرة صديقًا قديمًا أثيرًا عندي فسألني: «يا أخي أين أنت؟» قلت: «حيث تراني». قال: «إنا لا نجدك في أي مكان». قلت: «ذاك لأنك تبحث عني في حيث يوجد الناس عادة، وأنا لا أحب أن أكون حيث يكثر الناس ويزدحمون كالمواشي في الحظائر».
بعد هذه الفاتحة ذهبنا نتمشى واستطردنا في الطريق من حديث إلى حديث، فكان مما أذكر أني قلته له أني حُرٌّ كهذا الهواء لا سلطان لأحد عليَّ غير طبيعتي، أعمل ما أشاء، وأترك ما لا أرضى، ولا أكون في أي حال إلا على هواي، وأنا حريص على هذه الحرية الشخصية وضَنِينٌ بها وفي سبيلها ومن أجلها أهمل ما يُعْنَى به الناس غيري، وأصرف نفسي عمَّا تتعلق به النفوس مخافة أن يجني ذلك على حريتي ولو استطعت أن أبت صلتي بالعالم وأحيا بمعزل عنه لفعلت.
وكان صديقي يسمعنى أفشر وأمعر على هذا النحو، فيقول: «صحيح صحيح». ولم أكن أعلم في تلك الساعة أني أفشر أو أمعر، ولا كان قصدي إلى شيء من ذلك، وإنما كنت أتكلم بأول ما يجري في الخاطر كما هي عادة الناس حين يتحدثون، فقَلَّمَا يكلف الناس أنفسهم في المجالس عناءً يستحق الذكر في التفكير فيما يقولون.
وعدت إلى البيت وخلوت بنفسي وشرعت أراجعها وأحاسبها قبل النوم على عادتي؛ فإني أُعْنَى في آخر كل ليلة بتدبُّر ما كان مني في يومى، وأكره أن أنام قبل أن أفرغ من هذا الحساب، وما دامت صفحة اليوم قد انطوت فلماذا أبقيها مفتوحة؛ فأنا كالتاجر أو البنك الذي يحب أن يسوي حسابه يومًا فيومًا ويصفي ما له وما عليه في آخر كل نهار.
وفي ساعات هذا الحساب الليلي الذي لا يحسه أو يدري به أحد، يخيل إليَّ أني أُخرج نفسي وأُجلسها وأجعلها أمامي وأقدم لها سيجارة أو أناولها فنجان قهوة وأحييها وألاطفها أولًا كما يقضي بذلك الذوق والأدب بين المتمدينين، ثم أفرك كفي وأقول لها بابتسامة عريضة: «والآن تعالَيْ نتحاسب قليلًا» فتمتعض أو على الأصح لا يبدو عليها أنها ترتاح إلى هذا الحساب الذي لا أختار له إلا وقت النعاس، ولكنها لا تبدي لي هذا النفور بل تبتسم متكلفة مثلي وتقول: «ألا ترى أن الوقت متأخر قليلًا؟»
فأقول: «أشكر لكِ هذا الرفق ولكنَّا ما زلنا قبل نصف الليل فلا بأس من حديث قصير».
فتقول: «ولكنك تعبت في يومك … اشتغلت كثيرًا وكددت رأسك جدًّا، فخير لك أن ترتاح، وفي الصباح … قبل طلوع الشمس تكون قد استعدت نشاطك وانتعشت فنستطيع أن نتحدث كما تشاء … هذا فيما أعتقد خير لك».
فأقول لها: «إنكِ يا نفسي طول عمرك رقيقة عطوف، ولولا هذا لما رضيت أن أتخذكِ، ولما طالت بيننا الصحبة إلى اليوم، ولكن لماذا نُرجِئُ إلى الغد ما نستطيع أن نفعله اليوم كما يفعل التلميذ البليد؟»
فتقول: «إن المدارس لا تعلم حكمة الحياة، وليس صحيحًا أن على الإنسان أن يتقي إرجاء ما يمكن عمله، وإنما الحكمة أن يرجئ إلى غدٍ كل ما يمكن أن يرجئه ممَّا يريد أو يجب أن يفعله اليوم، ولا سبيل إلى الراحة في الدنيا بغير ذلك؛ وإلا صرنا كالآلات لا نستطيع أن ننعم بحياة أو نُحِسَّ لها طعمًا، وأصبحنا كالذي زعموا أن زوجته فتحت له دكانًا وأقامته فيه وحده، ولم يكفها هذا فجعلت تكلفه أن يعمل كل ما يخطر لها، فأصبح الرجل لا يعرف رأسه من رجليه؛ فهو أبدًا رائح غادٍ يعمل في الدكان أو في البيت أو يجري في الطريق ليقضي حاجة مستعجلة، فشكا إلى بعض إخوانه ما تُجَشِّمُهُ زوجته من الجهد والكرب وما تحرمه من الراحة، فسأله صديقه: ولماذا لا تطلقها وتريح نفسك من هذا العناء كله؟ فكان رد المسكين: وهل تركت لي وقتًا أطلقها فيه؟»
فضحكت فقالت نفسي: «إنك تضحك، ولكن هذا حال من يقبل على العمل إقبالك، ويعمل بما علموه في المدرسة من عدم إرجاء ما يمكن عمله».
وتظل نفسي تحاورني وتداورني على هذا النحو وبأمثال هذه السفسطة لتهرب من الحساب، فيضيق صدري بها، وأهم بزجرها بعنف لولا أن هذا لا يليق، وأقول الحق: إني أساعدها أحيانًا على الهرب لأني في تلك الأحيان أشعر بأن الحساب سيكون عسيرًا عليَّ أيضًا وأن الموازين ليست خفيفة عندي.
وفي تلك الليلة قلت لها بلهجة رقيقة: «هل كان من الضروري جدًّا لسعادتك أن تجري لساني بهذا الكلام الفارغ؟»
فسألتني: «أي كلام فارغ؟» فقلت: «إني حر كالهواء، وإنه لا سلطان لأحد عليَّ، وإني … وإني … إلى آخر ما أطلقت به لساني من الهراء».
فقالت متهربة: «إن هذه لهجة في خطاب النفس لا أظنها لائقة».
فقلت بضجر: «لا تحاورينى كما يفعل هذا الضمير المتعب».
فغمزت بعينها أن هس لئلا يتنبَّه الضمير الراقد فتكون ليلتنا سوداء، ثم قالت بصوت مسموع: «ولكن أي كلام ليس أكثره على الأقل فارغًا؟»
قلت: «صحيح، ولكن أني حر كالهواء؟ هذا لا يطاق ولا أدري كيف ازدرده صديقي بلا اعتراض».
قالت: «إما أن صديقك لم يفهم أو يدرك حق الإدراك، وإما أنه فهم وآثر المجاملة واتِّقَاء المصادمة، أو هو كغيره يفشر ويمعر؛ فهو يحملك جميل الصبر على فشرك لترده إليه حين يفشر هو».
فكادت تفحمني ولكني كابرت وقلت: «ولكني لا أحب أن أكون فشارًا».
قالت: «لا عليك فما أراك كنت فشارًا جدًّا، إن كل ما قلته هو أنه لا سلطان لأحد عليك غير طبيعتك، وهذا صحيح وهو يصدُق في كل حالة وعلى كل إنسان».
فسكتُّ وماذا عسى أن أقول، وخطر لي أني قد أباهي ما شئت بحريتي المزعومة في التصرُّف فلن أكون إلا مخادعًا لنفسي في حقائق الحياة، وما دام أني مُسَيَّرٌ بطبيعتي التي تسيطر عليَّ وتوجِّهُنِي فأنا لا أستطيع أن أكون إلا ما تسمح لي به هذه الطبيعة؛ فأنا أبدًا مقيد بها وفي سجن منها لا باب له ولا أمل في فكاك أو خلاص في هذه الدنيا. وقد تثور نفسي وتمور عواطفي وتفور خواطري ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعتي الخاصة وإلا في محيط هذا السجن، ومهما تكبر البحيرة وتعظم فإن لها من شطآنها حواجز، ولا بد من زلزال يثير معالم الأرض لتغيير هذه الحواجز أو توسيعها أو إبعادها، وعلى أنها تبقى بعد ذلك حواجز إلا إذا غارت البحيرة كلها واختفت من الدنيا.
وخيل إليَّ وأنا أفكر في هذا أن طبيعتنا أو فطرتنا تجعلنا في حياتنا خاضعين لسلطان يدٍ أو أيدٍ تمتد ألينا من وراء القبور، وأن الماضي هو الذي يسيطر علينا لا الحاضر، وأنه ليس لنا أن نتجه في سيرنا في هذه الدنيا إلا إلى حيث تديرنا هذه الأيدي الخفية التي تمتد من ظلام الماضي.
وتذكرت وأنا أدير هذا المعنى في رأسي كيف تزوجت، وأقص الخبر لأن له دلالته وعلاقته بهذا المعنى، كنت صبيًّا في الرابعة أو الخامسة — لا حين تزوجت من فضلكم — فزارنا خالي وامرأته ومعهما طفلة لهما منَّ الله بها عليهما فتناولها أبي ووضعها على حجره وقبَّلها، وأخذ يداعبها ويلمس خدها الطري الصغير بإصبعه الناشف الكبير لتتبسم ثم ردَّها إلى أمها ونظر إلى أمي وقال: «هذه إن شاء الله لابننا».
ولم أشهد أنا هذه الجلسة فقد كنت في الكُتَّاب، ولكنهم دعوني حين صعدت إلى رؤية «عروسي» فلم أزد على النظر إليها، ثم انصرفت عنها غير عابئ بها لأنها لا تستطيع أن تلاعبني، ولم أكن أعرف في ذلك الوقت أن هذه التي احتقرتها هي التي ستكون زوجتي يومًا ما، ولو أن أحدًا بيَّن لي هذا يومئذٍ وكشف لي عن الغيب فيه لما فهمته، وقد قصت أمي عليَّ ما دار في هذه الجلسة فيما بعدُ، ولم يخطر لي قط أن أشك في صدقها؛ فقد كانت رحمها الله لا تكذب، ولا تعرف المحاورة والمداورة أو اللف إلى أغراضها، وقد مات أبي بعد سنوات قليلة ولم يعِش لينعم بهذا الزواج الذي رتَّبه وقرره لابنه الذاهل في طفولته، ولكن ابنه — وأعني نفسي — ظل بعد أن سمع هذا الحديث وعرف رغبة أبيه يدور في نفسه أن أباه كان يشتهي أن يزوجه هذه الصغيرة بعد أن يكبرا، فاتجهت نفسي مع هذا الخاطر، وصرت أنظر إلى بنت خالي نظرتي إلى زوجتي المستقبلة، وكانت امرأة خالي — على عادة بعض الأمهات — تبديها لي تارة وتحجبها عني تارة؛ فأثمرت هذه المحاورة ثمرتها وتعلَّقت نفسي بالفتاة وصبوت إليها، فلما صرتُ ذا عمل أكسب منه رزقي حققت رغبة أبي، وهكذا سيطرت عليَّ إرادة أبٍ مات قبل سنوات عديدة، وقولوا ما شئتم في تأويل ذلك، فلن تخرجوا به عن كونه مظهرًا لتحكم الموتى في الأحياء.
ومنذ بضع سنوات قليلة دعاني صديقي الأستاذ سليم بك حسن العالم الأثري المشهور إلى زيارة ما كشف عنه من الآثار القديمة عند الهرم في المنطقة التي اتخذتها الجامعة لحفائرها، وقد طاف بنا ساعات طويلة وهو يشرح ويفسر، ولكنه لم يستوقفني من كل ما رأيت سوى أثرين أو نوعين من الآثار: فأما الأول فجدران بيوت قديمة لعلها كانت سُكنى لكهنة المعابد أو خدَمهم، وقد وقفت مذهولًا أمام هذه الجدران، فقد سكنت بيوتًا جدرانها مدهونة على هذا النحو وبهذه الألوان عينها، والذين سكنوا البيوت القديمة قبل أن ترتفع هذه العمائر الجديدة يعرفون ولا شك كيف تُدهن الجدران من الداخل باللون الأبيض أو الوردي أو الأزرق، وكيف يجري خط عريض بلون آخر كالحزام للجدار وفوقه خط آخر، وتحت هذين على مسافة عشرين سنتيًا أو نحو ذلك خط عريض آخر، وكيف يملأ بين الخطين العريضين بالرسوم أو النقوش أو يترك ما بينهما بياضًا.
هذا الذوق في زخرفة الجدران ليس جديدًا وإنما هو ذوق انحدر إلينا وورثناه من آلاف السنين وعشرات القرون، وقد طفَت علينا في السنوات العشر الأخيرة موجة من الغرب، فنحن نقلده في هندسة البناء وفي طراز الزخرفة، ولكنا بدأنا نستنكر أن نظل مقلِّدين ونستهجن أن نفقد بذلك خصائصنا القومية وذوقنا الخاص الذي نتميز به بين الأمم، وعسير أن يتنبأ المرء بما تؤدي إليه هذه النزعة الجديدة إلى التحرُّر من أسر الغرب والرغبة في أن نرجع إلى ما تمليه علينا طبيعتنا ومزاجنا القوي الخاص، ولكن المهم أن هذا التقليد ليس إلا نتيجة الشعور بقوة الغرب وضعفنا حياله وتوهُّمنا من أجل ذلك أن كل ما درجنا علية مظاهر للتأخُّر، وأن بقاء ذلك معناه بقاؤنا متأخرين؛ فيجب إذن أن نعجل بتغييره بل بمحوه، ولكنا سنستقر على الأيام فتتغلب علينا خصائصنا أو تؤثر على الأقل فيما ننقله ونقلد به الأمم الأخرى. وما الحاجة إلى الذهاب إلى الهرم للعثور على مَثَلٍ لتَحَكُّمِ الميت في الحي وسيطرة الماضي في الحاضر، هذه الأديان كلها في الدنيا جميعها أهي وليدة العصر الحاضر؟ الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفشيوسية وغيرها، أحدثها يرجع إلى أكثر من خمسة عشر قرنًا، ولست أصدق أن في الدنيا ملحدًا بالمعنى الصحيح، ورافضًا لكل دين وكل عقيدة، كان لي صديق لا يزال يفاخر بأنه ملحد لا يؤمن بشيء، وكنت ألومه وأقول له: ماذا يعني الناس منك إذا كنت تؤثر لنفسك أن تكون ملحدًا؟ ألحِد ما شئت فإن هذه جنازتك كما يقول الإنجليز، ولكن أرِح الناس من الإثقال عليهم بهذه الآراء التي لا يرتاحون إليها. فكان يضحك مني ويصر على حماقة المفاخرة بشدة إلحاده، ومضت سنوات والتقينا على ظهر باخرة ذاهبة إلى جنوة، واضطرب البحر عصر يوم ورمانا لُجُّهُ بالزَّبَدِ، وأنا ممن لا تدور رءوسهم في البحر مهما بلغ من اصطخاب أمواجه، ولكن صاحبي الملحد أصيب بدوار شديد ألزمه سريره، فقلت أزوره لأطمئن عليه ولأرى ماذا أستطيع أن أصنع له، فدخلت عليه فألفيته ممتقع اللون جدًّا من طول ما جشأت نفسه ونهضت بلا انقطاع تقريبًا، وكان مغمض العين ولكن شفتيه كانتا تتحركان أو تختلجان بما لا أسمع من فرط الخفوت، فمِلْتُ عليه لأسمع ما هو قائل حتى كادت أذنى تلمس فمه، فإذا به يذكر الله ويتوسَّل إليه أن ينقذه ويخفف عنه.
وقد ترددت بعد ذلك، أأعيره بما سمعت منه أم أدعه لنفسه؟ ثم رأيت أن أتركه وشأنه وأن أدع الأيام ترده إلى اتِّزان الحكم واجتناب التطاول بعقله القاصر المحدود على ما لا يدرك.
ولغاتنا … أليست شجرة أصلها في الماضي السحيق، وكل لغة تتحكم في عقول أبنائها وتصوغها لهم وتصبها في قوالبها، ونحن نفكر على طريقة خاصة يضطرنا إليها احتياجنا إلى التعبير وفق أحكام خاصة للغتنا الموروثة بألفاظها ونحوها وصرفها وتراكيبها وقوالبها ومجازاتها؛ أي إننا نفكر على نحو ما كان يفكر الأقدمون من أبناء هذه اللغة، ولا سبيل إلا إلى ذلك ولا مهرب منه.
ونظام الوقف ماذا هو؟ إنه ليس إلا نظامًا يستطيع به رجل مات أن يحكم إرادته بعد زواله وخروجه من الدنيا في أجيال متعاقبة من الأحياء، ومن كان يشك في أن الموتى يتحكمون في الأحياء فليذكر هذا الوقف، رجل له مال سيتركه ويرحل عن الدنيا وكأنما يعز عليه أن يده سترتفع وأن ماله ستتولاه أيدٍ غير يديه فينشئ وقفًا يقضي فيه بأن يرث الذكور ولا يرث الإناث أو يرث الإناث ولا يرث الذكور، ويُخرج طبقة ويدخل طبقة ويهب من يشاء ويحرم من يشاء، ويتحكم بهذه الوسيلة في إرادات ناس لم يرهم في حياته ولم يعرفهم ولم يحببهم أو يكرهم … أليست هذه يدًا ممتدة من وراء القبر توجه الأحياء إلى حيث تريد، وتصرفهم عمَّا لا تريد؟ وهنا موضع التحرز من خطأ قد يسبق إلى الأوهام، فلست أحاول أن أنتقد نظام الوقف أو غيره من النظم، وإنما أنا أسوق مثالًا لسيطرة الماضي على الحاضر وخضوع إرادات الأحياء لإرادات من أدرجوا في القبور. ولعلي لو كنت ذا مال لسَرَّنِي أن أنشئ وقفًا وأن أعطي وأمنع، وأنعم على هذا وأبخل على ذاك؛ فإن السرور بذلك التحكم طبيعي والأمم التي لا تعرف الوقف تعرف ما يشبهه مثل الوصية، وليس الوقف إلا ضربًا من الوصية أو لعل العكس هو الأصح.
ولا يتسع المقام لتقصي وجوه الحياة ومبلغ السيطرة الواقعة عليها من الماضي، ثم إن هذا لا ضرورة له فإني أظن الأمر واضحًا وفي وسع من شاء أن يقيس على ما ذكرت.
وليس معنى هذا أن حياتنا لا تتغير وأن الحاضر صورة دقيقة من الماضي وأن عصرًا يذهب وآخر يجيء، بلا اختلاف ولا تفاوت ولا تقدم. كلا؛ فإن القول بهذا لا يكون إلا سخافة، ونحن نشهد التطور بأعيننا في زماننا، فمن التعنُّت أن يحاول أحد أن ينكر أنه لا يزال يحدث في الدنيا، وإنما معنى ما أسلفت من الأمثلة أن الكتلة البشرية لا ترمي بزمامها إلى كل من يدعوها إلى تغيير حالها؛ وذلك بأن تقاومه وتناهضه ما وسعتها المقاومة لأنها تجري على عادة، والحرص على العادة أسهل من الأخذ بالجديد غير المألوف، ولكنها مع ذلك تتزحزح شيئًا فشيئًا عن مألوفها ولكن ببطء شديد، أو قل ببلادة إذا شئت، فلا يستطيع من يدعوها إلى الجديد أن يحملها على الأخذ به. كلا؛ فإنها لا تستطيع ذلك ولا تقوى عليه؛ ولهذا نرى الدعاة إلى الجديد يُسرفون في الطلب، ونرى الجماعة البشرية تسرف في الرفض أو المقاومة، وبذلك ينتهي الأمر بالوصول إلى حد وسط معقول.
وقد كانت الكتل البشرية فيما مضى تنتظر أن يجيء الدعاة إلى التغيير من أبنائها، ولكنَّا صرنا في زمن توثقت فيه الصلات بين الأمم قاطبة وصرنا لفرط السهولة في الاتصال وسرعته كأنَّنا أمة واحدة، فإذا قام داعٍ إلى جديد في إنجلترا فإن صوته يُسمع في الوقت نفسه في مصر والصين، وقد لا يُحدث في مصر والصين مثل الأثر الذي يُحدثه في بلاده، والأمر في هذا يرجع إلى درجة التهذيب في كل شعب ومبلغ استعداده لتقبل الدعوات الجديدة لا إلى بطء وصول الدعوة؛ ومن هنا قلت حاجة الأمة إلى داعٍ خاصٍّ من أبنائها؛ لأن كل داعٍ إلى جديد في أي قطر تبلغها دعوته كما تبلغ أهله، ومن هنا أيضًا صار التطور في زماننا أسرع لأن وسائل التبليغ والإلحاح على الشعوب صارت أسهل وأسرع وأقوى وأفعل، وحسبنا الصحف والمطابع والإذاعة اللاسلكية مما لم يكن له وجود في الماضي.
رأيت منذ أيام سيدة عجوزًا من معارفنا تمشي في الطريق مع زوجها الهرم وفتاتها الناهد، وكنت أعرف هذه الأسرة شديدة الحرص على تقاليد الحجاب، ولكن الزمن جرفها بسرعة التطور الحادث فيه، فخرجت الأم العجوز سافرة تنافس بنتها الحديثة في الزينة، وسار معهما الأب الهرم لا ينكر شيئًا من هذا الذي كان مثله قبل عشر سنوات يدفعه إلى التفكير في القتل؛ فهذا مثال بسرعة التطور من جراء السهولة التي تصل بها الموجات الجديدة من الأمم الأخرى.
وأعود الآن إلى بداية الكلام فأقول إن هذه الخواطر وأمثالها أرتني أن الحرية التي أزعمني ناعمًا بها في حياتي، أكثرها وهمًا ومغالطة للنفس في حقائق كبيرة، والقصد على العموم أولى وأسلم، وإن الحياة لأسْرٌ، وكثير على الأسير أن ينادي أنه حر طليق وفي يديه الحديد وله حين يتحرك صلصلة ورنين.