علمتني الحياة ضبط النفس، والحياة مع الأسف مدرسة ولكنها فيما يبدو لي عقيمة؛ فإن الدروس فيها لا تنتهي، ولا يكاد المرء يظن أنه حذق بعضها وآن له أن ينتفع بما تعلَّم منها حتى تسلمه الأقدار إلى العفاء! ففيم كان طول التتلمذ هذا؟ وما خيره إذا كان العمر ينتهي به؟ وما الفرق إذن بين الجهل والعلم والطيش والحكمة؟ ولماذا يعني المرء نفسه بالنظر والتدبر والتحصيل؟
قلت هذه مرة لصديق إنجليزي فلم يستغربه؛ لأنه لا جديد فيه، ولكنه سألني: «أيشق عليك هذا؟» فاحتجت أن أدير عيني في نفسي لأتبين، فما أدري واللهِ أهو يشق أم يهون. ثم قلت له: «لا أظن؛ فإني حائر، أجهل ما تنطوي عليه نفسي، ولكني أريد أن أفهم وأن أهتدي إلى الحكمة؛ فإني أراني أتعب وأكد في التحصيل والنظر، وسأقضي حياتي كلها في هذا، ثم يجيء يوم فأُطوى، ويطوى معي كل ما تعبت في إفادته ولم أنفع به أحدًا. ولو أني كنت أموت ويبقى ما أفدت لاختلف الحال، ولكن عقلي يبطل، وإحساسي ينعدم، فكأني ما عشت ولا كنت. فما هذا الموت الذي تموت به كل المعاني الحاصلة، والحكمة المستفادة، والمعارف والإحساسات؟ هذا هو الذي يثقل عليَّ، وإن كان لا مَفَرَّ منه. وفي سؤالك ما يُشْعِرُ أنك لا تستثقله كما أفعل، وهذا راجع لطبيعة المصري؛ فإنها غير طبيعتكم، نحن — المصريين — يختلط في نفوسنا الشعور بالحياة بالشعور بالموت، وتفكيرنا في هذه بتفكيرنا في ذاك، حياتنا كلها وآثار آبائنا الأقربين والأقدمين تثبت ذلك، ولكنكم تفكرون في الموت كأنه شيء مستقل عن الحياة، يعترضها ولكنه ليس منها، هو عندكم طارئ غريب … أو قُلْ إنكم لا تُحِسُّونَ به كإحساسنا نحن …»
وقصصت عليه قصة تجلو فرقَ ما بيننا وبين الإنجليز في هذا، وتلك أن سيدة استأجرتُ غرفة في بيتها في لندرة روت لي يومًا أن جارها توفي أبوه، وقالت إنه الآن مسجًّى على سريره في غرفته ينتظر يوم الدفن، وكان الابن يحب فتاة ويشتهي أن تكون زوجته، وقد تودد إليها وأطلعها على ما يُجِنُّ لها من الحب وخطبها فشكرته وأسفت واعتذرت، وكان له صديق يحب الفتاة أيضًا وينافسه عليها، وقد ظفر منها بكلمة القبول في نفس اليوم الذي مات فيه أبو صاحبه، فزاره ليعزيه، ثم لم يسعه إلا أن يفضي إليه بما يملأ قلبه من السرور، وأن يبلغه أن الفتاة رضيت أن تكون زوجته، فاحتمل الرجل الصدمتين: صدمة الموت وصدمة الحرمان، وتناول زجاجة الويسكي وناول صديقه كأسًا وتناول هو أخرى، قالت السيدة: وقد ظلَّا يشربان إلى الهزيع الثاني من الليل. وقد كانت تروي لي هذه القصة وهي معجبة بسعة صدر ذلك المفجوع في أبيه وفي حُبِّهِ، وعظم ضبطه لنفسه، ولم يكن إعجابها به لأنه استقبل صديقه وراح يسامره وأبوه الميت لا يزال في البيت؛ فإن الموت مألوف لا جديد فيه، ولا خير من تقطيع القلب حسرات من جرائه، وإنما كان الإعجاب لأنه احتمل الهزيمة في ميدان الحب على هذا النحو الكريم.
مثل هذا لا يمكن أن يحدث في مصر. ولو أن اثنين تنافسا على فتاة، لما كان من سلامة الذوق أن يذهب الفائز بها إلى مُزاحِمِه ليطلب منه تهنئته بذلك ومشاركته في سروره؛ فإن هذا في عرفنا أشبه بأن يكون شماتة ومكايدة، فكيف إذا كان أحدهما أبوه ملفوف في أكفانه ينتظر أن يُحمل إلى قبره؟
وأكثر ما نراه من مظاهر الحزن أو الجزع عندنا من التكلُّف لا سيما بين النساء، ولكن لماذا يتكلف المصريون هذا ويحرصون على إبدائه؟ أترى تكلُّفَهُم هذا يرجع الأمر فيه إلى الجهل أم إلى شعور بشيء في الطباع؟ لا أدري، ولكن الذي أدريه أن التجلُّدَ يكون مما يتحدث به الناس ويلهجون بذكره، كأنما الأصل هو الجزع. وإني لا أذكر أني تظاهرت بالاطمئنان وتكلفت الابتسام لمَّا ماتت أمي بين يدي، وكنت أخادع أخي وأخادع سيدات كثيرات كُنَّ في تلك الساعة في البيت، وقد كرهت أن ينفجرن بالصراخ والعويل واللطم، وأمي في ثيابها التي كانت تلبسها لمَّا حضرتها الوفاة، فلما عرف أخي ما دبرت ساءه هذا مني وكبر عليه أني زعمت له أنها نائمة وهي ميتة، وأني تبسمت وكان حقي أن أبكي، وبقي أيامًا لا يكلمني، وإذا لقيني ترقرقت الدموع في عينيه؟ ولا أدري ماذا كان يجديه أن يعلم أن روحها فاضت قبل ساعة أو بعد ساعة، وأحسب هذا من الحزن، ولم أكن دونه حزنًا، بل لعلي أعمق منه حزنًا عليها، ولكنه كان عليَّ ما لم يكن عليه من الواجبات في تلك الساعة فاحتجتُ إلى خنق شعوري حتى أفرغ من الأمر على ما أحب.
وكانت لي طفلة صغيرة ماتت، فاحتَلْتُ حتى استطعت أن أواريها التراب وأمها تعتقد أن بنتها لا تزال على قيد الحياة، وكانت الأم مريضة، وقد أوصاها الطبيب بالتزام السكون واجتناب الحركة والانفعال، فلم يسعني أن أفعل إلا ما فعلت، وكان هناك عامل آخر غير الموت يزيد في ألمي، وذاك أني موقن أن الإهمال هو الذي جر الموت، والآجال بيد الله، ولكن لكل شيء سببًا، وكانت البنت قد أصيبت بالحصبة، فاحتجنا — لمرض أمها — أن نكل العناية بها إلى خادمة كنا نظنها حاذقة ذكية، فأصيبت البنت بالتهاب رئوي قضى عليها وأودى بها، غير أن ما كان كان، ولا حيلة فيه لإنسان، فكظمت غيظي، وكتمت ألمي، وتشددت لأُعِينَ الأم المسكينة على الصبر، وجاءني بعض الأصدقاء يعزونني في المساء فألفوني أبتسم وأضحك وأمزح فتعجبوا، ولا محل للعجب في الحقيقة، وأحسب الأمر قد صار عندي عادة وما أظن بي إلا أني أصبحت «كالحانوتي» والمرء ممَّا تعود.
ولم أكن هكذا في صغري، وإني لأستحيي أن أقول كيف كنت أحمق طياشًا قليل الصبر سريع التأثر، ولو شئت لقصصت على القارئ مائة حكاية وحكاية، ولكني لا أنوي أن أفضح نفسي، وقد صرت يهون عليَّ كل شيء إلا أن يراني الناس لا أملك زمام نفسي، ولا أستطيع ضبطها وكبحها، ومن العسير أن أعرف البواعث التي أغرتني بهذا الكبح وزيَّنَتْهُ لي حتى أصبحت لا يسخطني شيء كأن يتفلَّت زمام النفس من يدي، وفي وسعي أن أقول في هذه البواعث، ولكني لا أحسب أني قادر على الإحاطة بها أو مهتدٍ إلى الخفي منها. وما ذكرت الموت إلا لأنه في مصر ممَّا يغتفر الجزع حياله، وإن كان المرء يلقى في حياته ما هو شر منه وأدهى، وقانا الله السوء ولطف بنا. ولم تَهُنْ عليَّ الحياة، ولكني مللت طول الحيرة التي يورثنيها النظر في وجوهها وأضجرني العجز عن الاهتداء والفهم، فنفضت يدي يائسًا وقلت: فليكن ما يشاء الله أن يكون، ولأعش كما يتيسر لي أن أعيش والسلام، ولأدع عناء التفكير والنظر لمن أراد أن يحطم رأسه؛ فإني أنا لا أشتهي هذا التحطيم، وقد جربته فلن أعود إليه، ومن هنا قلة مبالاتي، وماذا أبالي بالله؟