عرفت صديقي الأستاذ العقاد منذ ربع قرن، فما أسرع ما تمضي الأيام علينا، وليتها تبطئ وتتلكأ حين تهم بأن تمضي بنا، فما يحس الإنسان أنه قضى وطره من الحياة أو بلغ غايته وأدى رسالته فيما يقسم له من فسحة في الأجل، وأشهد أن العقاد اليوم هو هو الذي عرفته أول يوم، وإني ليخيل إليَّ أحيانًا حين أتدبر أمره كأنه الجبل الشامخ الذي لا يتغير، ولا يختلف حاله في عصر عن عصر ولا تتبدل وجوهه إلا بزلزال يدك الأرض ويقلب عاليها سافلها. ولم يزده الاطلاع الشامل رحابة أفق وسعة عقل وعمق نظر ودقة في الإحساس، فقد كانت تلك خصائصه البارزة التي لا يسع من يلقاه إلا أن يفطن إليها ويكبرها من أول ساعة، ولم تستطع الدنيا بما يكون فيها عادة من الصروف والغير وانتقال الأحوال، أن تلين منه صلبًا، أو تثني له عودًا، أو أن تخشن جوانبه الرقيقة الملساء، أو تغلظ له كبدًا أو أن تفسد من سجاحة خلقه واستقامة طباعه ومروءة نفسه وشهامة قلبه.
وقد كان العقاد ناضجًا يوم عرفته، يكتب ويقرض الشعر ويشق لنفسه الطريق ببراعاته إلى المنزلة الملحوظة والمرتبة المحسودة التي يتبوأها اليوم ولا ينازعه عليها منازع. وكثيرون من الأدباء والشعراء، في الشرق والغرب، [اتهموا] أنهم بلغوا فوق ما يستحقون من الشهرة ونالوا أكثر من نصيبهم العادل من المجد الأدبي، وأن الحظ ساعفهم وأخطأ من لعلهم أولى منهم، وليس هذا شأن العقاد، ولا هو ممن يصدق فيهم هذا القول، فما كان للحظ عمل فيما بلغ، ولا لمؤاتاة الظروف أثر، وإنما احتل مكانه بالفضل الصريح والحق الواضح الذي لا يسع أحدًا أن يكابر فيه بخلاف، وعلى الرغم من الظروف المعوقة، وفشو الجهالة واستفاضة التعصب القديم، ومذ حل في هذا المكان رسخت فيه قدمه، وعجز كل من تألبوا عليه من المطاولين والمناجزين أن يزحزحوه عنه قيد أنملة، بل عجزوا عن أن يرتدوا سالمين ناجين، غير مهيضين.
وللعقاد شخصية لا يسع من يتصل بها إلا أن يعنى بها ويحسب لها حسابها، وقد تكرهه أو يضيق به صدرك، أو تحبه وتصفو له بالود الصادق والإخلاص الثابت، ولكنه لايسعك أن تغفله أو تتجاهله أو تغضي عنه أو تستخف به، لأن له من قوة الشخصية ما يجعل ذلك مستحيلًا، فغير ميسور مع العقاد أن تقول «دعه، ولا تجعل بالك إليه» أو أن تزعم أنك لم تنتبه إلى ما يكون منه، إلا إذا استطعت أن تزعم أن إعصارًا ثار بك فلم تحسه ولم تفطن إلى ما أحدث، على أن العقاد كالإعصار من حيث القوة والبأس والقدرة على العصف، وهو لا يتخد منها أداة للهدم إلا إذا اقتنع بوجوب ذلك وبأن الهدم هو الأصلح، وفيما عدا ذلك تراه ينفق قوته في البناء والتشييد، ورفع الصروح، وما عرفت أن العقاد بدأ إنسانًا بعدوان، أو تطوع إلى إساءة، فليس هذا في طباعه، ولكني ما عرفته قط نكص عن رد إساءة أو صد عدوان، أو تردد في الكر على من يتعرض له لأنه ليس في طباعه أن يصبر على هضيمه أو يحتمل أذى أو إساءة كائنًا ما كان مصدرها أو قمتها، وهذا الإباء هو مفتاح شخصيته، وكل من يعرف العقاد يعرف أنه أسلس الناس طباعًا وأسجحهم خلقًا وأوسعهم صدرًا وأعفهم لسانًا وألينهم جانبًا وأسخاهم نفسًا إلا أن يحاول محاول أن ينال منه صراحة أو غمزًا وتعريضًا، فلا ترى منه حينئذ إلا الخلق الوعر والثورة الطاغية التي لا تبقي ولا تذر، ولو أفنت نفسها فيما ثارت عليه، على أنه كثيرًا ما يكبح نفسه ويؤثر الترقق إذا شفعت له الثقة بالصديق والخبرة [بخصوص] سريرته.
والعقاد صاحب رسالة في الأدب، وفي الحياة، وقد أداها على أقوى وجه وبلغها في أوسع نطاق، وقد فرغ من الدعوة إليها ومضى بعد ذلك يلقي إلى الناس خارجياته وعبقرياته وهو مطمئن، وكل صاحب رسالة لا بد أن يكون مؤمنًا بها ومخلصًا لها، ليتسنى أن يأخذ الناس عنه ويستجيبوا له. والإيمان والإخلاص طباع وليست من التكلف، أو ما يكتسب بالطلب والرياضة والممارسة، وهي لا تكون في شيء دون شيء، وغير معقول أن يكون المرء مخلصًا لنفسه وإحساسه ورأيه مؤمنًا بما ينطوي عليه، وأن يبدو ذلك منه في حال، ولا يبدو في حال، ولهذا كانت صفة الإخلاص ومزية الإيمان طابعًا لكل ما يصدر عن العقاد من قول أو فعل، وفي كل باب من أبواب المساعي، وفي السياسة كما في الأدب.
وكل شيء يهون عند العقاد إذا رضي عقله الكبير وارتاح ضميره الحي، واطمأن شعوره المرهف، فلا مال يحرص عليه، ولا الحياة يرى لها قيمة، ولا الحرية تبقى لها مزية، إذا أبى عقله أو وجدانه أو قلبه أن يسكن، ولست أسرف في القول حين أقول إنه يعيش لما يعتقد لا لسواه، وأنه لا يعنيه من الحياة إلا ما يؤمن به فيها. وأنه لا يجد لذة في العيش أو يعرف قيمة للحياة بغير ذلك، ومن هنا تراه يحيا بحياته بين الناس، ولكنه في الوقت نفسه كالذي يرصدها من مرقبٍ عالٍ ناءٍ عنها خارجٍ عن نطاقها، ومن هنا قدرته على النظر الشامل الذي يحيط بالكليات ولكن من غير أن تخفى عليه الجزئيات الدقيقة، ومن هنا ذلك التعدد المدهش في جوانبه.
ومن مزايا العقاد أن له من حيويته هو مددًا لا ينفد، فلا حاجة به إلى مدد يسعفه من الخارج، لأن في نفسه ذخيرة من القوة تكفيه وتكفي رهطًا معه، ومن كان في مثل غنى نفسه فكيف يشعر بالافتقار، أو يُخشى عليه الضعف؟