«هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية؟»
سؤال انتقل به صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم إلى «برجه العاجي» من مجلة أدبية فرنسية ألقته على طائفة من أدباء بلادها؛ فكان جواب أحدهم: «يخيل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسميًّا في المناهج المدرسية».
ويقول الصديق فيما عقب على هذا الجواب: «ولو سئلت لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى».
وكنا نتحدث في هذا قبل أن أقرأه في البرج العاجي من الرسالة، قصصت على الصديق بعض ما أذكر من عهد المدرسة، ووصفت له أساتذتي في اللغتين العربية والإنجليزية، وتوخيت الإنصاف وتحريت الحق، فسألني أن أكتب هذا وأنشره، فوعدت أن أفعل. وقد بدأت أكتب وفي نيتي أن أبر بالوعد، ولكن بعد أن بلغت هذا الموضع أراني أميل إلى الإخلاف؛ فما أحب أن أسيء إلى أحد بلا موجب وبغير حق، أو أن أُرمَى بالجحود والكفران. وأكبر الظن أن الذين علموني نسوا — أو هم لا يدرون — أني كنت من تلاميذهم، فلو قلت فيهم ما قال مالكٌ في الخمر ما عرفوا أنهم هم المعنيون، ولو أثنيت عليهم لتعجبوا وراحوا يتساءلون: «ترى من كانوا معلميه؟» ولعل أكثرهم قد عاد إلى التراب الذي جُبِلَ منه، ولكني مع ذلك لا أراني أقدر أن أضعهم في الميزان إلا إذا وضعت نفسي معهم.
أنا أيضًا كنت تلميذًا ثم مدرسًا لسوء الحظ، وكانت ميزتي المحتمة في أيام التلمذة: «الغباء وفقر الذهن وضعف التصور» يضاف إليها الفقر، وكان يبلغ من فاقتي في ذلك الزمان أن كنت أحتاج إلى القميص الأبيض لألبسه مع البذلة فلا نجد ثمنه، فتعمد أمي المسكينة إلى ما خلف أبي من قمصان فتصلحها فتضيق من هنا وتقصر من هناك، ولكن الياقة أو البنيقة كانت تعييها فتلبسنيها كما هي، ولو جعلت لي منها حزامًا لكان هذا أصلح؛ فتصور هذا الطوق العظيم على عنقي، وكنت إذ أمشي بها لا أدري ماذا أصنع وكيف أبلغ المدرسة؛ لأني كنت أحتاج إلى كلتا يدي لأهوي بجانبي الطوق عن أذني، ولكني محتاج أيضًا إلى حمل الكتب والكراسات فكيف أصنع وليس لي غير يدين اثنتين؟
ولا أدري كيف نجوت من العمى؛ فقد كانت عيناي ترمدان فلا تعبأ بي المدرسة، نعم كان لها طبيب يحضر كل يوم لعيادة المرضى مِنَّا، فكنا إذا سمعنا ناقوسه نجري إليه فيصفنا أمامه ولا يجشم نفسه عناء السؤال أو الفحص، بل يقول وهو يشير إلى كل واحد منا على الترتيب: «شربة، لبخة، قطرة» فيتفق أن يكون من حظك «القطرة» وشكواك أن رجلك مهيضة، أو اللبخة وبك زكام، وكنت أذهب إليه لعلاج عيني ولكني كنت أخرج مأمورًا بالشربة أو اللبخة ولا أخرج قَطُّ بالقطرة، أما في البيت فكان كل ما أتداوى به من الرمد الماء البارد.
وآية غبائي وبلادتي أني كنت في كل فرقة الأخير — حتى مقعدي كان الأخير في الحجرة — وكنت لصغر جسمي وقماءتي لا أكاد أبدو للمدرِّس، فهو لا يراني ولا يحس بوجودي ولا يعنى بي، وأنا أغتنم هذه الفرصة فأتشاغل عن درسه بما يخطر لي من العبث، وكان جاري في بعض الفرق ضخم الجسم كأنه الفيل الصغير، وكان لجسامته يحتاج حين يقعد أن يتكئ على الدرج بكلتا يديه، وكانت عادته أن يمسح وجهه بكفيه بعد ذلك ويتمتم بقوله: «خيبة الله عليكم»، يعني زملاءه التلامذة لأنهم كانوا لا يكفون عن ركوبه بالعبث، فاشتريت مرة قليلًا مما يسمى «بودرة العفريت» ونثرتها على الدرج فاتكأ عليه ومسح وجهه، ثم ذهب يحك كفيه وخديه حتى دمي وجهه وانقطع عن المدرسة أيامًا حتى شفي؛ ففطن المدرسون إلى وجودي بعد ذلك، وصرت أُتَّهَمُ بكل ما يحدث في المدرسة ولو وقع في فرقة غير فرقتي؛ فأنا عندهم المحرض أو الموسوس بالعبث إذا لم أكن أنا الفاعل.
أما الدروس فما كنت أفهم منها شيئًا، ولم يكن هذا ذنب المعلمين فما كانوا يقصرون في الشرح والبيان، ولكني أنا كنت لا أستطيع أن أنتفع بذلك؛ لأني أكون قاعدًا على ركبتي فوق البلاط؛ عقابًا لي على ما لم أصنع في الغالب، أو واقفًا ووجهي إلى الحائط، أو مطرودًا من الحجرة كلها. وكيف يمكن بالله أن يفهم شيئًا من لا يزال هكذا، ركبتاه على الأرض أو أنفه على الجدار أو هو يتمشى في الفناء أو الدهليز …؟
وكان أرق المدرسين معي وأظرفهم وألطفهم على العموم إنجليزي أنيق، كان إذا رآني — وما أكثر ما كان يُغضِي — أخرج على النظام يدعوني أن أقف ويطلب مني أن أتهجى كلمة «مجنون» أو «شقي» وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، ويكتفي من العقاب بهذا.
وكان لنا معلم للغة العربية غريب الأمر، كانت حجرتنا مجاورة لحجرة الناظر الإنجليزي، فكان هذا المعلم يفرغ من إلقاء الدرس وشرحه ومن التطبيق أيضًا في خمس دقائق على الأكثر، ثم يقول: «أغلقوا النوافذ كلها» فنفعل، ثم يأخذ في حديث سياسي يذم فيه عهد إسماعيل ويلعن فيه أيام توفيق ويثني على الإنجليز أطيب الثناء، ولم يكن أعجب من صنيعه هذا إلا إغلاقه النوافذ ليوهمنا أن الناظر الإنجليزي يسوءه أن يعلم أنه يثني على قومه … وكنَّا نناقشه ونجادله ونخالفه فيوسع صدره ويروح يحاورنا ويداورنا ليقنعنا بأن ما خرب من نفسه عامر، وكانت تلك أيام مصطفى كامل وكنا نقرأ «لواءه» ونسمع خطبه. وأحسب أني لا أبالغ إذا قلت إني تلقيت دروسي الأولى في اللغة العربية من اللواء والمؤيد لا من معلميَّ في المدارس، وتصور أن منهم معلمًا كان يكلفنا أن نحفظ كتاب النحو عن ظهر قلب … بل تصور أنه كان يثني على التلميذ الذي يقول له في جواب سؤاله عن الفعل اللازم «ما هو»: «هو ما ليس كذلك»، كما في الكتاب بالحرف الواحد، ولم أستطع قط في حياتي أن أحفظ شيئًا عن ظهر قلب إلا إذا جاء هذا عفوًا وعن غير قصد، فكانت درجتي في اللغة العربية هي الصفر دائمًا.
وكل ما حفظته من الشعر العربي في المدرسة قصائد قليلة مثل:
إذا المرء لم يدنَّس من اللؤمِ عرضُهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ
وما إليها، وحتى هذه يخيل إليَّ أني ما حفظتها إلا فيما بعد لما كبرت، ولكني أذكر على كل حال أن المدرس الذي كان يغلق النوافذ ويهجو المصريين ويمدح الإنجليز هو الذي كان يتقاضانا أن نحفظ: «إذا المرء لم يدنَّس من اللؤمِ عرضُهُ فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ» وقد يكون هذا اتفاقًا محضًا.
وكان أساتذتنا في اللغة الإنجليزية على عكس ذلك، فكانوا يرشدوننا ويساعدوننا ويقرضوننا الكتب إذا آنسوا منا ميلًا إلى القراءة، ويصحبوننا إلى مكتبة المدرسة، ويتخيرون لنا ما يوافقنا وما يسعنا أن نفهمه، ولا يبخلون علينا بالتفهيم والشرح حتى في أوقات الفراغ إذا طلبنا منهم ذلك، ولكن بعضم كان عجيب الشذوذ، أذكر منهم واحدًا كان يعلمنا الجغرافيا الاقتصادية، فكان يكتب على السبورة رقمًا يبلغ من طوله أن بقيته تجيء على الجدار! وكان هذا مبلغ علمه بهذه الجغرافيا، ومنهم من كان يعطينا الدرجات على الخط وجودته ولا يبالي أصبنا أم أخطأنا في الموضوع، فأجودنا خطًّا أعلانا درجة ولو كان أجهل مني.
أظن أن المدرسة لا تستطيع أن تعلم الأدب، وكل ما يسعها ويجوز أن يُطلب منها هو الترغيب والتوجيه والتسديد، وحسبها أن توفق في هذا، وأكاد أقول حسبها ألا تنفر من الأدب وتزهد فيه.