يقول مثلنا العامي إن لكل شيخ طريقة، ولست بشيخ لا في السن ولا في الشكل، وإن كانت تردني رسائل كثيرة يخاطبني فيها كاتبوها بالشيخ. وما أكثر من يتوهمونني رجلًا طويلًا عريضًا ضخمًا ثم يرونني لسوء الحظ فيذكرون تمثُّلي بقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فما
يثقل أرضًا ولا يسد فضاء
وإن كان أضخم ما في الدنيا لا يثقل أرضًا ولا يسد الفضاء، ولكني أحسب الشاعر أراد أنه لا وزن له ولا حجم، وليست لي طريقة أعرفها في الكتابة وإنما أقول ما يحضرني وأتناول الكلام من حيث يسلس، هكذا كنت في صدر أيامي، وكذلك أراني بعد أن استدبرت من الشباب ما كنت أستقبل والشاعر يقول: «إن الشباب مطية الجهل»، وهو لا يعني الجهل بالجغرافيا والتاريخ والرياضة وما إلى ذلك، وإنما يعني الجهل بالحياة. وما أظن به إلا أراد أن يسوق هذا الكلام مساق الاعتذار ممَّا فعل في حداثته، ثم ندم عليه في ساعة من ساعات المراجعة للنفس. أو لعله أراد أن يفيء بأمير أو وزير إلى الرضى بعد السخط؛ فإني لا أظن أن الشباب أجهل جدًّا بالحياة من الكهولة. ولا شك أن الكهل — في الأغلب والأعم — يكون أعرَف بالناس وطباعهم وأساليب تفكيرهم، وأدرى بالضار والنافع وأعلم بما يحسن وما لا يحسن، وأقدر على صحة الحكم وأدق فهمًا للأمور وأفطن لآخرها بأول الظن، وعسى أن يكون هذا كل ما عناه الشاعر؛ فإن الحياة شيء آخر لا أرى الشيخ الذي علت به السن أحسن فهمًا له من الطفل، على أني أظن الشاعر أراد بالجهل اندفاع الشاب وركوبه الحياة بعاطفته وإحساسه أكثر ممَّا يركبها بعقله، فإذا كان هذا هو المقصود فهو صحيح. والشباب لا يكاد يملك إلا هذا؛ لأنه صاحب حيوية دافقة، يحس دفعها وقوتها وما تغري به، ولا يحس الكوابح والصوارف، وشبيه بذلك أن يُرزَقَ المرء في الحداثة كَنزَ مال عظيم، ينظر إليه فلا يسعه إلا أن يرى أنه قادر به على كثير ممَّا يخطر على البال ويدور في النفس، ويحس لفرط كثرته أن نفاده شيء بعيد. وأقرب شبهًا بحيوية الشباب ماء الفيضان، وعسير جدًّا حجز الماء أيام الفيضان وصده عن التحدر بالسدود، فإنه خليق أن يكسرها أو يعلو فوقها فلا يعود لها غناء، إنما تجدي الأسداد والخزانات بعد أن يفتُر الفيض ويقل المدد. وهذا الجهل الذي يحدثنا عنه الشاعر سببه فيض الحيوية وقلة جدوى الضوابط والكوابح معها؛ فإنها لا تغني غناءها المرجو إلا بعد أن يذهب الكثير من هذا الفيض كما لا تنفع السدود إلا بعد أن يهبط الماء ويتحدر فيضه إلى البحر، وإن أكثره ليذهب عبثًا أو على الأصح يعود إلى مصادره الأولى، وكذلك فيض حيوية الشباب يبدو لنا أنه يذهب مع الرياح الأربع من غير أن ينتفع به الشاب أو الناس، ولكن من يدري؟ هذا سر الحياة.
وثقة الشباب بنفسه، وغروره وتهوره وطيشه وجرأته … إلى آخر ذلك، تكون على الأكثر نتيجة هذا الفيض في حيويته، وليس كل طيش أو جرأة أو غرور أو ثقة أو غير ذلك ممَّا يجري هذا المجرى من فرط الحيوية، فقد يكون ذلك من قلة في العقل، وضعف في الرأي، وفساد في التقدير، أو جهل أو بلادة أو شيء آخر من هذا القبيل، ولكن كلامنا على الشباب السليم من هذه الآفات وما إليها.
على أني لا أدري، فلا ينتظر القراء مني جزمًا بشيء أو رأيًا حاسمًا قاطعًا في موضوع، وحسبهم مني أن أسوق ما أعرف؛ فقد أصبحت كالذي سئل: «من أي شيء كثرة شكك؟» فقال: «من محاماتي عن اليقين» وفي العبارة لعب بالألفاظ، ولكن المعنى فيما أعرف صحيح، وأنا أحد الذين طال إخلادهم إلى ما كانوا يظنونه يقينًا، ودفاعهم عنه، وتأييدهم له، حتى ساورتهم الشكوك من كل جانب، وليس هذا لأن اليقين يفضي إلى الشك، بل لأن طول النظر في الأمر يحير، ولأن للحقائق أكثر من جانب واحد؛ فالذي ينظر إليها من جانبها البادي له يُصدِّق، ولكن هناك جوانب أخرى ينظر إليها غيره وهم أيضًا يصدقون، ولسنا في الحياة إلا كأولئك العميان الذين صادفوا فيلًا فجعل كل واحد منهم يصفه بما لمس منه، وإنا لنختلف فيما هو دون الفيل، أكثر مما اختلف العميان فيه.
لما بنيت مدينة الملاهي بمصر الجديدة — وكانت تسمى لونابارك — ذهبت إليها مرة وحدي فلم يرقني منها في تلك المرة إلا التيه أو «بيت جحا» كما كان يسمى، ولا أدري لماذا يعتقد الناس أن بيت جحا لا بد أن يكون تيهًا مضلًّا، ولكن هذا هو الذي كان، ودخلت أول مرة ودُرْتُ دورة وإذا بي أخرج من حيث دخلت بلا مشقة أو عناء فاعتقدت أن الأمر سهل، وأن الطواف بهذا البيت العتيق هَيِّنٌ، ودخلت مرة أخرى ولم أجعل بالي إلى الطريق فتهت، ولقيت في بعض المنعطفات قومًا حائرين، وسمعت أحدهم يقول إن ساقيه أصبحتا لا تحمِلانِه، وإن رأسه يدور ويدور، وإنه لا يحب أن يقضي الليل هنا، وإنه يخشى لطول ما غاب أن يلجأ أهل بيته إلى البوليس، وإن نهاره سيكون أسود على كل حال. فابتسمت وربَّتُّ له على كتفه وقلت له: «هوِّنْ على نفسك فالأمر أيسر من ذلك، تعالوا معي، اتبعوني فإني أعرف المداخل والمخارج» ففرحوا وتبعوني وهم يدعون لي، فدرنا دورتين وإذ بنا نرجع إلى حيث كان يبكي صاحبنا ويصف ما سيلقاه من زوجته حين يعود إليها، فتلفَّتُّ مستغربًا، ولكني لم أتوقف. ومضيت في طريقي فدرنا وقطعنا بضعة كيلومترات ثم عدنا إلى حيث بدأنا، فقال الذي كان يبكي: هذه ثاني مرة نرجع فيها إلى هذه النقطة. فتلجلجت ولكني كابرت وقلت له: «لاحظ أن الطريق متشابه» فصاح بي: «لقد رأيت هذا البيت من الخارج قبل أن أدخله وهو أمتار في أمتار، فكيف نطوف نصف ساعة ولا نبلغ آخره، أليس هذا لأنَّا نسير في دائرة لا نخرج عنها؟» فطمأنته واستأنفت السير وتوخيت أن أعدل عن المنعطفات التي تردنا إلى حيث كنَّا، فأبى سوء الحظ إلا أن نرجع إلى مكاننا الأول، فطار عقل الرجل ولكني استطعت أن أتألَّفه وأن أرده إلى الهدوء وقلت له إن الغضب لا ينفع، والبقاء هنا أقل نفعًا، ولا بد من السير على كل حال. وسرنا والتقينا في طريقنا بتائهين وتائهات مثلنا، ثم بغيرهم وبغيرهن، حتى لأظن أننا اجتذبنا إلينا كل تائه وتائهة في هذا البيت المسحور، وسمعت فتاة تقول: لا بد أن يكون هذا أكبر بيت في العالم. فقال صاحبنا الذي فقد الأمل في العودة إلى أهله وأصحابه: طبعًا فقد قطعنا مائة كيلومتر. فوجدت لساني وقلت: في نصف ساعة؟ معقول! ورأى بعضهم أني أبتسم وأن ثقتي بنفسي عظيمة وخاف — على ما أظن — أن يفقدني في هذا الزحام فلا يخرج أبدًا، فتناول ذراعي وتأبَّطها، ومضينا على بركة الله، فلم نجد لا مخرجًا ولا مدخلًا، وإنما وجدنا مكاننا الأول بعينه، فاقترحت أن نعود إلى مدخل البيت ثم نبدأ من جديد. فأمَّا أن نعود إلى المدخل فقد رحَّب به كل من حَفَّ بي، وأما الابتداء مرة أخرى من جديد فقوبِلَ اقتراحه بالصمت والتقطيب، وشرعنا نمشي في اتجاه جديد ومضى نحو عشر دقائق، وإذا بنا نلقى أنفسنا في وسط البيت ومركز الدائرة فيه، وقد هممت بأن أزعم أن هذا ما قصدت أن أهتدي إليه، ولكن نظرات القوم ردتني إلى ما هو أسلم، فقلت إننا ضالون ولكنا نعرف الآن أين نحن. وأخذنا نمشي من هناك وضاعت دقائق عرفنا بعدها أننا عدنا إلى المركز، فارتبكنا جميعًا واضطربت أعصابنا وعجزنا عن اتقاء العودة إلى هذا المركز وصار كل طريق نأخذه يردنا إليه، وأصبح هذا أمرًا معروفًا مقررًا في الأذهان، حتى إن بعضنا كان يبقى في هذا المركز انتظارًا لعودة الباقين وثقةً بهذه العودة التي لا مفر منها، وغلبَنا اليأس آخر الأمر فصحنا جميعًا بصاحب هذا البيت المسحور، فأطل علينا شاب من عماله وجعل يشير إلى اتجاهات لا نراها، وكنا قد تعبنا وأصبحنا عاجزين حتى عن الفهم، فأمرنا أن نبقى حيث نحن ووعد أن يجيء ليخرجنا، ولكنه كان حديث العهد بالبيت فتَاهَ قبل أن يصل إلينا، وكنا نراه من حين إلى حين يجري هنا وههنا، ونسمع كلامه وسؤاله عنَّا: أين نحن؟ ولا أطيل، جاء أخيرًا صاحب البيت وأخرجنا بسلام، ولكنه لم يشفع لي عند رفاقي حسن نيتي معهم وشدة اجتهادي لهم.
ويخطر لي الآن أن الحياة كهذا البيت، وأني بدأتها هذه البداية، واغتررت بحسن التوفيق فيها في أول الأمر، ولا أعلم — وأحسبني لا أحب أن أعلم — كيف أخرج منها؛ فإن البقاء هنا أحب وأشهى على ما فيه من التعب.
وقد جربت الفقر بعد موت أبي، وكان في حياته مسرفًا، ولكنه ترك لنا مالًا أتى عليه أخ «كان» أكبر مني — وأقول كان لأنه لحِقَ بمن عبر — فكدنا نلصق بالتراب من شدة الفاقة، وكان لا بد أن نأكل ونشرب ولا بد أن نتعلم أيضًا، وكانت أمي تبيع ما عندها من الحلي وما إلى ذلك لتنفق علينا، وأخونا لاهٍ عنَّا بتضييع مالنا، وكنت أنظر إلى الجهد الذي تتجشمه أمي في تدبير الأمر، وإلى حال أخي ولهوه فأحس باليأس من الخير في الطبيعة الإنسانية، ويخامرني من المرارة ما يكاد يفيض على لساني، إلى أن كان يومًا أسود بلغ الضيق والكرب فيه ما لا سبيل بعده إلى الاحتمال، وإني لَواقف في ساحة البيت وظهري إلى الحائط وعيني إلى الأرض، وإذا بشيخ من العلماء أعرفه كان صديقًا لأبي وزميلًا له وتلميذًا لجدي في طلب العلم؛ فأحسست بقلبي يهبط إلى حذائي وأنا أتقدم إليه لأحييه وأرحب به، فما كان في البيت حبة من البن أو قطعة من السكر — ولا غيرهما أيضًا — ودار رأسي وأنا أفكر في فضيحتنا مع هذا الضيف الكريم الذي لا نملك من الطعام والشراب ما نكرمه به، ودعاني أن أصعد إلى جدتي وأن أُقرِئَّهَا سلامَه وأن أستأذن له عليها؛ فقد كان كابنها، وكان يلازم جدي أيام التحصيل والطلب، وجلس إليها وأقبل عليها يسألها عن الصحة والحال وهي تحمد الله الذي لا يُحمد على المكروه سواه، وأنا واقف أنظر ولا أكاد أرى أو أعي شيئًا، وإذا بي أسمعه يقول لها: إن «الأفندي» — يعني أبي — كان قد ترك معي قبل موته مالًا مخافة أن يبقى معه فينفقه، وكان في نيته أن يعطيه غيره وغيره لأحفظه له أيضًا ثم يشتري بها أرضًا أو عقارًا، ولكن أجله وافاه قبل أن يتيسر ذلك؛ فبقي المال عند هذا الشيخ الجليل لا يعلم به أحد، وقد خاف الشيخ أن يموت فيضيع على ذوي الحق حقُّهم، فهو يريد أن يرده إلينا لتبرأ ذمته. وقد عشنا بهذا المال حتى استطعت أن أكسب رزقي بعرق جبيني، وكانت هذه الحادثة هي التي ردت إلى نفسي الإيمان بالخير في الدنيا.
ولم نصبح بهذا المال أغنياء ولكنه كان حسبنا مع حسن التدبير، وكانت حياة شظف ولكنها كانت محتملة مع الأمل والكد، غير أن الحرمان كان فيها كبيرًا، وكانت النفس تشتهي أحيانًا ولا تجد، والعين ترى وترتد إلى القلب بالأسف والكمد، وكان هذا يشق عليَّ أحيانًا فينفد صبري ثم لا أجد لي حيلة إلا الجلَد حتى أفرغ من التعليم.
وكان أقوى ما أعانني على الاحتمال شاب هزيل معروق بادي السقام، كنت أراه في وقدة الظهر الأحمر على حجارة مكدسة في الحارة وهي بقايا بناء، فكان هذا الفتى المسكين يسويها ويرصها ويرقد عليها ويتخذ منها سريرًا له، وكانت الشمس الحامية تقع على رأسه العاري وهو راقد لا يباليها أو لا يملك ما يتقيها به، فكنت أتعجب له، ثم صرت أقتدي به؛ أعني أني صرفت نفسي عن طلب المتع واللذاذات، ووطنتها على حياة الخشونة والجلَد، وعلى الأيام تساوت عندي الأحوال وصرت إذا يسر الله أمرًا فبها وله الحمد، وإذا حُرِمْتُهُ فلا جزع ولا أسف. وقد فقدت حتى القدرة على اشتهاء ما يعده الناس من اللذاذات المطلوبة، وفقدت السرور بها حين تتاح، وأعفيت من الأسف واللهفة عليها إذا عز منالها واستعصت على الطلب، ولست زاهدًا ولكني رضت نفسي على الزهادة عند الحاجة واتخذت من القدرة عليها ملجأً أعتصم به من الاضطرار إلى ما لا ترضاه النفس ويرتاح إليه الضمير، وقد أفادني شعوري بالقدرة على الاستغناء فأصبحت لا أبالي أي حال أكون فيه؛ لأني أحس أن في وسعي أن أتجرد وأتجرد حتى أصبح كالعود النابت في الصحراء ليس عليه ورقة واحدة، وهو مع ذلك حي، في جوفه نضارة كامنة وتكفيه قطرة واحدة من الماء لينبت فيه الورق الأخضر.
ومن أجل ذلك صار المال لا قيمة له عندي، ولست أجهل أن له في الحياة شأنًا، وإني لأعرف أنه هو الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وأنه لا كرامة لإنسان لا مال له، وأنه — باختصار — عصب الحياة وزندها، ولكني أعرف أيضًا أن قدرة المرء على الاستغناء تجعله كالذي يحلق فوق الحياة الأرضية فيرى الناس تحته لا حيث يتوهمون أنفسهم؛ لهذا أنفق ولا أبالي، آخذ من غير أن أعني نفسي بالحساب، وأعطي إذا اتفق أن يبقى معي شيء بلا مبالاة أيضًا بالحساب؛ أي إن روحي روح المليونير وإن كان لي حال المساكين؛ ولهذا أيضًا أستغرب وأنكر أن يطالبني أحد بشيء، وكثيرًا ما أقول للدائنين إنه ليس أعبط ممن يقرض إلا من يرد القرض.
والفقر في أيام الصبا هو الذي جعل مني مدرسًا ورجل أدب وصحافة بدلًا من طبيب كما كنت أريد أن أكون، ولكنهم طردوني من مدرسة الطب ورموا لي أوراقي في الشارع بعد أن قدمت طلب الالتحاق بأيام، لا لسبب سوى أن الناظر لم يعجبه شكلي، فحملت أوراقي وخرجت ساخطًا على هذا الاستبداد وتلك العجرفة، واتهمت الإنجليز في أخلاقهم وعقولهم وتحوَّلت مكرهًا إلى مدرسة المعلمين العليا، فما بقي أمامي غيرها، وهناك حدث أن تحقيقًا جرى معي لأني ألقيت خطبة سياسية في تأبين المرحوم مصطفى كامل، وكان ناظر المدرسة الإنجليزي ووكيله المصري يحضران التحقيق، فكان الناظر الإنجليزي هو الذي يحاول أن ينقذني، والوكيل المصري هو الذي يحاول أن يوقعني، وفاز الناظر فبقيت في المدرسة وصلح عندي بذلك ما فسد بسبب طردي من مدرسة الطب.
وكانت مساكننا في الأحياء الوطنية المهملة، فكنا نعد القاهرة مدينتين: الأولى ذات الأوحال والظلام، والثانية تلك التي تبدأ من ميدان الأوبرا، وكنا نشعر بالانتقال إذا نتخطى الأوبرا فنتلفت ونحن نمشي، ونصعد عيوننا ونصوبها، ونتأمل الأرصفة اللامعة، والأنوار المتلألئة والعمارات الشامخة، والواجهات التي تبدو من وراء بلورها المصقول المعروضات المغرية، ونتأمل الرائحين والرائحات في ثياب السهر، وننظر إلى من في المطاعم والمقاهي الغاصة بالخلق، فنتهامس وينبه بعضنا بعضًا، ثم نستأنف السير ونروح نعقب على ما رأينا، ونصف إحساسنا به ووقعه في نفوسنا، وتكِلُّ أرجلنا من المشي فنقعد على دكة بواب إحدى العمارات.
ولم تكن المرأة عاملًا له أثر في حياتنا وتربيتنا، فأخذنا طريقنا في الحياة بغير معونتها، وكانت تربيتنا تقضي علينا بأن نعد المرأة مخلوقًا ينبغي غض البصر حين نلقاه، فنقصت حياتنا بذلك وحرمت الامتلاء والسعة واللين والمرونة، وعرفنا الحب كلامًا يقوله الشعراء ويهذي به المساكين المحرومون الأشقياء، والجمال نعمة وري، ولكن هذا الفصل بين الجنسين أحاله أكلة تشتهى ومتعة تختلس، وعلى ذكر الجمال أقول إني لا أذكر أني رأيت في بيتنا أو بيت واحد من أهلي أو أصحابي في ذلك الصدر من حياتي زهرًا على مائدة أو رفٍّ، وكان يجيء شم النسيم في أوانه من كل عام فإذا أصبح الصباح وفتحنا عيوننا على يومنا الجديد، جاءونا بالبصل نشمه، ومما هو خليق أن يعين على تصور هذه الحياة الناقصة أني بعد أن شببت عن الطوق جدًّا استأجرت بيتًا رقعته واسعة وفي أرضه أشجار فاكهة شتى فأحببت أن أزرع شيئًا في هذه الأرض، فاستشرت من الأقرباء والمعارف من لهم دراية أو خبرة بهذه الشئون فأجمعوا على اقتراح الفجل والجرجير والخس والفلفل وما إلى ذلك، ولم يخطر لواحد منهم أن الأزهار يمكن أن تغرس أعوادها، فقلت لهم إني لا ينقصني ما يملأ المعدة، وإنما ينقصني ما يجلو البصر وترف له الروح.
وجربت الناس وبلوتهم في حالات شتى فإذا هم قَلَّمَا يفرقون بين العاطفة والشهوة، أو يفقهون ما يسميه «جرالد كابرلاند»: «نعيم الحياة»، ووجدت حياة الأكثرين خطأ مركبًا وسلسلة من الشهوات تتكرر كالكسر الدائر لا تبعث على الرضى ولا يظفر المرء منها بالسكينة، وخيل إليَّ — ولا يزال يبدو لي — أني أرى آيات ذلك في الوجوه وأسمعها في الأصوات وألمحها في سلوك الناس الذي تحيط به أسلاك شائكة مما تقضي به تقاليد الحرمان؛ فهم أرقاء فيما أرى وعبيد للخوف والخرافة وما إليها، وأكثر من أرى أموات وإن كانوا يروحون ويجيئون على ظهر هذه الأرض، أما النساء فلسن موتى فقط، بل هن أيضًا دفينات.
ومن أعاجيب تجربتي للحياة في هذا البلد أنك تحتاج أن تحصل على رخصة للحب كرخصة الكلب أو الراديو أو السيارة، وكأني بتقاليدنا توحي إلى الناس أن يقولوا إن «هنا اثنين يحاولان أن يعيشا سعيدين فامنعوهما ولا تمكنوهما من ذلك».
وقانوننا الأخلاقي وقف على الجنس، وكلمة الأخلاق لا تكاد تعني سوى التزام هذا القانون، أما النفاق والكذب وفساد الذمة وموت الضمير فلا يلم بها قانون الأخلاق.
وجربت الحياء فإذا هو ضعف يدفع المرء إلى الوراء ويحرمه حقه، ولم أَرَ أن ضعف الجسم وضآلته يمنعان أن يخوض المرء المعارك؛ فقد كنت في حداثتي ما يسمى «جر الشكل» أعني أني كنت أفتتح الشر بين الفتوات، وكنت لا أحجم عن ضرب من يتعرض لي ولو كان هائل الجسم، وكنت ألجأ إلى الحيلة فأرميه مثلًا في عينيه بالتراب فأعميه وأربكه وأنهال عليه بعد ذلك بما أشاء حيث أشاء، ولم أكن أتقي أن تقع العصا أو الحجر على مقتل لأن الحرب حرب فكنت لهذا وأمثاله قَلَّمَا أنهزم.
وجربت حمل الهم فإذا هو أثقل من معاناته بعد وقوعه، وكان يخيل إليَّ في بعض الأحوال أن الأزمات النفسية أو المادية ستقضي عليَّ وتقتلني فإذا بها تمر وتتركني سليمًا معافى؛ فعلمت أن كل شيء يزول في أوانه ووطنت نفسي على ذلك فلست أجزع الآن لما يصيبني، أو أخاف أن يصيبني لأني عهدت كل شيء يمر ويتركني، ووثقت من ذلك حتى لأرى الفرَج في الضيق وأحس الصحة في المرض.
وخالطت الناس من كل الطبقات فإذا هم مثلي، لا أنا خير منهم أو أفضل ولا شر منهم وأرذل، وكل ما فيَّ من العيوب وجدته فيهم، وكل ما أباهي به من الفضائل لم أعدم نظيره عندهم، وكنت أعرف لنفسي عذرها حين أزل أو أخطئ، ولا أدري ما عذر الناس غيري، فصرت أضع نفسي في مكانهم؛ فأحس أني كنت خليقًا أن أفعل كما فعلوا؛ فاتسع صدري وكثر تسامحي.
وأوجز فأقول إني لم أكن أحيا في أيام الشباب وإنما كنت أرهب الحياة وأتناولها بحذر وخوف وإشفاق؛ ولهذا كنت في ذلك الصدر من العمر متشائمًا يؤوسًا، فلما أدبر وولت أيامه، قويت إرادة الحياة وزال عني الخوف منها، ولم تعد تخامرني تلك الرهبة القديمة، وأقبلتُ على الدنيا وأنا أحس أني استأنفت شبابي الذي لم أنعم به، فكأني وثبت من الطفولة إلى الكهولة ثم عدت أدراجي إلى الشباب الذي خادعتني عنه وغالطتني فيه نشأتي وبيئتي وتربيتي الأولى، وأقول تربيتي الأولى لأني ربيت نفسي تربية أخرى مختلفة جدًّا.