في سنة ١٩٠٩ كنت ألازم من الأدباء صديقنا المرحوم الأستاذ محمد السباعي صاحب كتابي «الصور» و«السمر» ومترجم قصة «المدينتين» لديكنز و«الأبطال» لكارليل و«التربية» لسبنسر وعشرات من الكتب الأخرى، وما أظن بأبناء هذا الجيل إلا أنهم يجهلونه ولا يعرفونه، ولا يخطر لهم أنه عاش على ظهر هذه الأرض، وكان له فضل على الأدب الحديث، وأحسب أنه سيكون عليَّ أن أعرفهم وأذكرهم به إنصافًا له وقضاءً لحقه عليَّ فإن له دَينًا في عنقي.
وكان السباعي — رحمه الله — منهومًا بالأدب لا يشبع، وعاشقًا لا يسلو، وقلما رآه أحد إلا وفي يده كتاب أو كراسة، ولا أدري ماذا لفته إلى ابن الرومي، ولكن الذي أدريه أنه كان يذهب إلى دار الكتب وينسخ ديوان ابن الرومي في كراسات، ويحفظ أكثر شعره عن ظهر قلب؛ فأعداني بحب هذا الشاعر المنكود الحظ فقلدته واستنسخت شعره، فلما كملت عندي نسخته شرعت أبيِّضها في كراسات بعد تصحيح ما يوفِّقني الله إلى تصحيحه من الأغلاط التي لا آخر لها في نسخة دار الكتب.
وكان صديقنا الأستاذ السيد عبد الرحمن البرقوقي قد أصدر مجلة البيان، فاقترح عليَّ أن أكتب عن ابن الرومي ففعلت، وكان هذا حافزًا آخر لدرسه، ولكن الحرب صرفتني عن مواصلة الكتابة فانقطعت عنها إلى سنة ١٩٢٤، وفي أثناء ذلك ظهر الجزء الأول من ديوان ابن الرومي شرح المرحوم الشيخ شريف ثم الثاني بعد وفاته، ومختارات من شعر ابن الرومي جمعها الأستاذ كامل الكيلاني، فوصلت ما انقطع وعدت إلى الكتابة عن ابن الرومي في جريدة الأخبار، وجمعت ذلك كله ونشرته في كتابي «حصاد الهشيم»، وكان من توفيق الله بعد ذلك لهذا الشاعر المغمور أن عُنِيَ به صديقنا الأستاذ العقاد فتناوله بالبحث الوافي والدرس الدقيق في كتابه الجليل عنه، وهكذا برز ابن الرومي من ظلمة الخفاء ونُضِيَتْ عنه الأكفان التي ظَلَّ ملفوفًا فيها أكثر من ألف سنة.
خطر لي وأنا أدير هذا في نفسي أن في العالم من أبناء اللغة العربية أكثر من مائة مليون، وأن من هؤلاء نحو عشرة ملايين يقرأون ويكتبون، فكم من هؤلاء يقرأ ابن الرومي والمتنبي والمعري والشريف وأبا تمام والبحتري وأبا نواس وغيرهم وغيرهم؟ لا أكثر من بضعة آلاف قليلة. وجُلُّ هؤلاء يقتنون الكتب كما يقتنون التحف ويرصونها للزينة لا للاطلاع، ويتخذونها كما يتخذون السجاجيد والزهريات والصور وما إلى ذلك. والذين يفتحونها — ومنهم من يفعل ذلك — للتسلي وتزجية الفراغ، والأقلون هم الذين يعنون بالدرس والتحصيل؛ فهم في هذا العالم العربي الطويل العريض لا يعدون بضع مئات؛ فكأن خلود الأديب في أخلاد الناس ليس معناه أن السواد الأعظم منهم يعبأون به، بل معناه أن قلة ضئيلة هي التي يرجع إليها الفضل في بقاء اسم الأديب مذكورًا وآثاره منشورة.
و هذا هو الخلود، ثلاثة أو أربعة أو أكثر من المجانين بشيء، لا يزالون يقرعون الطبول باسمٍ من الأسماء ويلحون به على الناس حتى يوقظوا النفوس لهذا الاسم ويوحوا إليها أن صاحبه جدير بالذكر وأن آثاره تستحق الاقتناء.
ومن كان لا يصدق فليسأل نفسه: هل شهرة المتنبي مثلًا ترجع إلى تعلُّق رجل الشارع به؟ أليس الواقع أنه لو كانت شهرته رهنًا بعناية الرجل العادي به لما طال عمرها أكثر من بضعة أيام، أسبوع على الأكثر؟ والمتنبي مع ذلك أشهر شعراء العرب، وحكمه لا تزال تدور بها الألسنة وتجري بها الأقلام، وديوانه يعاد طبعه كل بضعة أعوام مرة، ولكن كم نسخة تُطبع من ديوانه في كل مرة؟ ألفان؟ ثلاثة آلاف؟ أربعة آلاف؟ في عالم عربي يبلغ عدد القراء فيه عشرة ملايين أو خمسة على الأقل إذا جادلت؟! فما ظنك بحظ الذين هم أقل منه شهرة؟!
والمدارس والجامعات تخرج في كل عام — في هذا العالم العربي — عشرات من الآلاف تلقوا دروسًا في الأدب، وعرفوا أسماء الأدباء وألَمُّوا إلى حد ما بخصائص فنونهم ومميزات آثارهم، ومع ذلك تبقى ثلاثة آلاف نسخة من ديوان شاعر كالمتنبي محتاجة إلى أكثر من عشر سنوات لتنفد، ولولا أن في كل جيل بضعة مجانين بالأدب لا يكفون عن الصياح بأن المتنبي شاعر فحل وأنه رجل عظيم، وأنه جدير بأن يُقرأ ويُدرس؛ لبقيت هذه الآلاف القليلة من نسخ ديوانه مكدسة في مخازنها لا تجد لها طالبًا.
هؤلاء المجانين القليلون هم الذين ينقذون الشهرات من الفناء ويبقونها حية جيلًا بعد جيل؛ فإن لكل جيل مجانينه الذين لا يزالون يبحثون وينقبون حتى يعثروا على عظيم مقبور كما يفعل المنقبون عن آثار المدنيات التي عفى عليها الزمن، لا يعروهم فتور ولا يدركهم وني؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنه لا خوف من بقاء عظيم مدفونًا وحقه مهضومًا وفضله مطويًّا أو مجحودًا، وقد لا يكون في هذا ما يعزي العظيم، ولعله شبيه بمنح القتيل في ساحة الحرب وسامًا على سبيل الاعتراف ببسالته، والشهادة بحسن بلائه، ولكنه على كل حال يُجدي بأن يمنع اليأس من إنصاف الدنيا ولو بعد الأوان.
وحتى حين يفوز المرء في حياته بالشهرة التي يستحقها — أو لا يستحقها كلها — عند الجماهير يكون الفضل في بقاء هذه الشهرة للقلة المتحمسة، لا للكثرة التي لا تلبث أن تذهل عمَّا أحبت ومن أحبت؛ وبهذا وحده تظل الجماهير تذكر وهي لا تفعل ذلك عن اقتناع أو فهم وإدراك صحيح لاستيجاب الشهرة، بل لأن هؤلاء المجانين الذين لا يخلو منهم زمن يقولون لها عشرة آلاف مرة أو عشرين ألف مرة إن فلانًا عظيم وحقيق بالذكر والتخليد، فتصدق وهي لا فاهمة ولا مدركة، ويقصد آحاد من هذه الجماهير — التي فعل الإيحاء في نفوسها فعله — إلى المكاتب ويشترون ديوان المتنبي ويضعونه على الرف ويفركون أيديهم وهم فرحون باقتناء هذه التحفة التي آمنوا بأنها خالدة وأنها أبقى على الزمن من الزمن.
وتسأل: لماذا يجن هؤلاء الأقلون بخارجيات السلف؟ فلا تجد جوابًا يقنع العقل وتسكن إليه النفس. ولن تعدم من يقول لك إن سر هذا الجنون هو ما في هذه الآثار من الحق والحكمة والفكاهة والجمال، ولكن هذه لا تزال ألفاظًا تتطلب معانيها التحديد، ومن العبث أن تلعب لي بها وتصنع لي منها توافيق وتباديل، وتزعم أن هذه هي المعاني التي تُفهم من هذه الألفاظ التي نشعر بدوران معانيها في النفس وتُعيِينا العبارة الدقيقة عنها … أو هذا على الأقل حالي أنا معها، وإذا كان شاعر مثل «كيتس» يستطيع أن يقنع نفسه بأن الجمال هو الحق، وأن الحق هو الجمال، ولا يحتاج بعد ذلك إلى كلام أو شرح أو بيان؛ فإني أنا مع الأسف لا يكفيني هذا وإن كنت آنس من نفسي حب كلمته هذه والسرور بها سرورًا ليس مرجعه إلى الفهم.