سأقص على القراء، في هذه الكلمة، قصةً أرجو أن يجدوا فيها من الطرافة والمتعة ما لم أجده فيها في وقتها! كنت يومئذٍ أتولَّى رياسة التحرير في جريدة مسائية حزبية، وكنت مستقلًّا بالتحرير أتم استقلال؛ فلا رأي لأحد سواي في المحرِّرين والعمال، ولا فيما يُكتب أو لا يكتب. وكان الحزب فريقين: واحدًا يناصرني وهم الأقلون، وقد زادوا على الأيام قلةً حتى صاروا واحدًا ليس إلا! وفريقًا آخر يكرهني أو يستثقلني، ويتبرم في كل حال، ولا يرضى عني ساعة واحدة، ولا يقول فيَّ كلمة خير مفردة، وشرهم عليَّ رجل كان لا يفتأ يكيد لي ويدس الدسائس، في حيث يتوقع أن تعصف بي وتريحه مني، لله في لله، لا لأي شيء راجع إلى سلوكي معه، أو موقفي منه؛ فإني لا أخلق الخصومات، وإن كنت لا أستطيع أن أمنع وجودها!
وكان نصيري في الحزب — على إخلاصه وصدق سريرته وحماسته في شد أزري — عظيم الحظ من البلاهة وضعف الإرادة، ومؤدَّى هذا أنه كان نصيري ما دام لا يحاول أحد أن يقلبه عليَّ! أما خصمي فكان أَلَدَّ الخصوم، لا يكل ولا يمل، ولا يتعفف عن كيدٍ مهما سفل. وكان ذكيًّا وقويًّا، وله مقامه في الحزب، فكيده لا شك يخشى، ولكني كنت أؤثر الإغضاء والتجاهل؛ طلبًا للراحة، ولأن هذا يطير عقله ويزيد غيظه.
وإني لجالس ذات يوم إلى مكتبي بالجريدة وأمامي أحد زملائي المحررين، وإذا بنصيري يدخل عليَّ كالقنبلة ويقول قبل أن يجلس: «يا أستاذ، المحررين اللي عندك دول لمامة يا أخي! شوف لك طقم غيرهم».
فاضطرم وجه زميلي، وصعد الدم إلى رأسي، ولكني ضبطت أعصابي، وكبحت نفسي بجهد شديد، وغمزت زميلي فتركنا؛ ذلك أني أدركت أن هذا كيد جديد من صاحبنا الذي لا يكل ولا يمل ولا يتعفف، وأيقنت أنه أغرى نصيري بهذه الحماقة، ليفسد ما بيني وبينه، وفي مرجوِّه — ولا شك — أن تثور نفسي فيعنف ردي، فينتهي الأمر بالاستقالة، وهذا ما يبغي! وقلت لنصيري: «طبعًا طبعًا! أوَتحسبني لا أعرف؟ إن كل ما أرجو هو أن يهديني البحث الذي أجريه إلى موظفين أفضل ممن عندي، فأمهلني والله الموفق!»
قال: «انتهينا! ما دام الأمر كذلك فلا كلام لي، والأمر كله متروك لك والسلام عليكم» وخرج.
وتناولت التليفون، ودعوت ابنه أن يوافيني «حالًا» لأمر لا يحتمل أقل تلكؤ أو إرجاء، وجاء الابن الفاضل، فقصصت عليه ما كان من أبيه، وقلت له: «لقد ملأ فلان هذه الأسطوانة التي هي أبوك، فأدارها علينا، فعليك الآن أن تقبض على والدك المحترم، وتملأ الوجه الثاني من الأسطوانة على هوانا نحن، ثم نطلقه يديرها على صاحبنا في الحزب! مفهوم؟»
وذهبنا إلى نادي الحزب ننتظر مجيء الأسطوانة، ونسمع اللحن الذي فيها حين يدور، ونشهد دهشة ذلك الخصم اللدود حين يرى الأمر قد انقلب عليه!
ولا أستطيع أن أثبت هنا ولا كلمة واحدة مما دارت به «الأسطوانة»، ولكني أقول إن خصمنا اللدود، رفع عينيه إليَّ — وكان يصعد درجات السلم — فهز رأسه وفهم!
كانت هذه الحوادث وأمثالها من أكبر ما زهَّدني في العمل في الصحافة الحزبية، وقد مات الثلاثة، فعليهم جميعًا رحمة الله.